تعد مشكلة الفقر من أكبر التحديات والصعوبات التي تواجه البشرية في شتى أنحاء الأرض وذلك بسبب ما يترتب عليها من بؤس وشقاء وتشرد وجريمة وانقسام وخلل في المجتمعات البشرية، ما يهدد ليس فقط المجتمعات الفقيرة بل البشرية جمعاء، وللأسف الشديد ان كثيرا من البلاد التي تعاني من الفقر هي بلاد إسلامية نتيجة لعدة عوامل منها ما هو اقتصادي إلى جانب أسباب أخرى كالحروب والكوارث الطبيعية وزيادة معدلات الاستهلاك وقلة المشروعات التنموية المدعومة من مصارف التنمية العالمية.
تؤكد الدراسات أنه لا يمكن استئصال الفقر إلا بالمعالجة الجذرية لمسبباته، وحجر الأساس لمعالجة الفقر هو تمكين المجتمعات الفقيرة من الاعتماد على نفسها وإعطائها الفرص للمشاركة في خطط تنموية تناسبها.
والإحصاءات تشير إلى أنه يعيش نحو 1,1 مليار نسمة - أي ما يوازي خمس سكان العالم - على أقل من دولار واحد في اليوم، ولذلك سيتعين على البلدان المرتفعة الدخل أن تزيد من مستويات المعونة، وتحرير التجارة العالمية، لتقليل معدلات الفقر في البلدان النامية، وبينما انخفضت حديثا نسبة من يعيشون تحت وطأة الفقر المدقع في منطقة شرق آسيا، ارتفعت أعداد الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم إلى 314 مليون شخص في إفريقيا جنوب الصحراء، وتصل نسبتهم إلى 47 في المئة من السكان.
وفي العام 2000 مثلا التزمت البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة وعددها 189 بلدا بالأهداف الإنمائية للألفية الجديدةMDGs"" والتي من بينها أهداف تتعلق بمكافحة الفقر إلى جانب أهداف أخرى ذات علاقة.
وفيما يأتي الأهداف الثمانية المأمول تحقيقها بحلول العام 2015:
تقليص نسبة الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، ويعانون من الجوع، لتصل إلى نصف ما كانت عليه في 1990؛ وإكمال الأولاد والبنات على حد سواء لتعليمهم الابتدائي؛ والقضاء على التفرقة بين الجنسين على جميع المستويات؛ وخفض معدل وفيات الأطفال الأقل من خمس سنوات بنسبة الثلثين عن المستوى المسجل في 1990؛ وخفض معدل وفيات الأمهات بنسبة ثلاثة أرباع عن المعدل المسجل في 1990؛ والعمل على الحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية "مرض الإيدز"؛ وضمان قدرة البيئة على الاستمرار؛ وتأسيس شراكة عالمية من أجل التنمية.
رأينا مما سبق أن الفقر يعتبر تقليديا قدرا، وهو من طبيعة الأشياء، فالرزق على الله، يعطيه من يشاء، متى شاء. لذلك لا أحد يستغرب وجود الفقر في مجتمع ما لأنه موجود في جميع المجتمعات، وكأنما هو من خصائص كل مجتمع، إلا أن الفرق يبقى في درجة الفقر ونسبة الفقراء في المجتمع والأسباب الحقيقية للفقر.
ويمكن من هذه الزاوية أن نبين أسبابا داخلية وأخرى خارجية للفقر أذكر من بينها: الأسباب الداخلية والمقصود بذلك طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما. فالنظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والعسف. ويستفحل الأمر إذا تضاعف العامل السياسي بالعامل الاقتصادي ويتمثل في انفراد الحكم بالثروة بالطرق غير المشروعة نتيجة استشراء الفساد والمحسوبية، فيتعاضد الاستبداد السياسي بالاستبداد الاقتصادي والاجتماعي، وهي من الحالات التي تتسبب في اتساع رقعة الفقر حتى عندما يكون البلد زاخرا بالثروات الطبيعية كما حدث ويحدث في عدة بلدان، هذا فضلا عن الحروب الأهلية والاضطرابات وانعدام الأمن. الأسباب الخارجية: وهي أعقد وأخفى أحيانا. ولعل ما حدث في العراق أخيرا مثال صارخ على ذلك ولاسيما بعد حصار دام أكثر من عقد تسبب في معاناة فقر شعب بكامله على رغم ثرواته النفطية. ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين حيث التدمير المتواصل للبنية التحتية وهدم المنازل و... ومن الأسباب غير الظاهرة للعيان نقص المساعدات الدولية أو سوء توزيعها في البلدان التي يسود فيها الفساد في الحكم.
وهكذا أصبح الفقر اليوم هو التحدي الأخلاقي الأكبر في العالم، وهو تحد يستحث همم الحكام والمثقفين وعالم الأعمال وأعضاء المنظمات غير الحكومية من نقابات ومنظمات حقوق إنسان، فضلا عن سائر المواطنين المهتمين بقضايا المجتمع، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة من دون القضاء على الفقر، لذلك كثر الحديث خلال النصف الثاني من القرن العشرين عن الفقر والفقراء في أدبيات الأمم المتحدة بالتوسع من الظاهرة الاجتماعية في المجتمع الواحد إلى الظاهرة العالمية بتصنيف البلدان إلى غنية وفقيرة وبتحديد مقاييس ومؤشرات للفقر في مستوى البلدان وكذلك الأفراد مع مراعاة النسبية، فالفقير في الصومال على سبيل المثال لا يقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أميركا الشمالية أو غيرها من الدول الأخرى.
وهكذا توسع الاهتمام بظاهرة الفقر من المجال الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات إلى مجال العلاقات الدولية، وتعتبر تجربة مكافحة الفقر في ماليزيا من أبرز التجارب التي كللت بالنجاح على مستوى العالم الإسلامي الذي يعيش 37 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، فقد استطاعت ماليزيا خلال ثلاثة عقود "1970 - 2000" تخفيض معدل الفقر من 52,4 في المئة إلى 5,5 في المئة؛ وهو ما يعني أن عدد الأسر الفقيرة تناقص بنهاية عقد التسعينات إلى أكثر من ثلاثة أضعاف عما كان عليه الحال في عقد السبعينات.
ويتوقع إذا استمرت جهود الحكومة في محاربة الفقر على الوتيرة نفسها أن يصل معدل الفقر بحلول العام 2006 نحو 0,5 في المئة، ويكون الفقر المدقع قد تم القضاء عليه قضاء مبرما.
واللافت في تجربة ماليزيا أن الحكومة وجهت برامج تقليل الفقر التي تم تنفيذها لتقوية الوحدة الوطنية بين الأعراق المختلفة المكونة للشعب الماليزي، واستخدمت هذه البرامج كوسيلة سلمية لاقتسام ثمار النمو الاقتصادي، إذ كان التفاوت الكبير في الدخول، وعدم العدالة في توزيع الثروة سببا في وقوع اشتباكات دامية بين الملايو "يشكلون الغالبية 55 في المئة" والصينيين "يشكلون الأقلية 25 في المئة" في مايو/ أيار ،1969 وبذلك ساهمت جهود تقليل الفقر بجدارة في تقليل التوترات العرقية وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي صار عنوانا لنهضة ماليزيا وازدهارها الاقتصادي.
وتسعى السطور القادمة إلى استعراض تجربة مكافحة ماليزيا للفقر، إذ تقوم فلسفة التنمية في ماليزيا على فكرة أن "النمو الاقتصادي يقود إلى المساواة في الدخل"، وعليه فإن مكاسب التطور الاقتصادي يجب أن تنعكس إيجابيا على المواطنين في تحسين نوعية حياتهم بما يشمل توفير الضروريات من الغذاء والعلاج والتعليم والأمن، وأن يكون أول المستفيدين من هذا النمو الاقتصادي هم الفقراء والعاطلون عن العمل والمرضى والمجموعات العرقية الأكثر فقرا في المجتمع والأقاليم الأقل نموا.
وترجمت فلسفة التنمية في السياسات الاقتصادية التي وضعتها الحكومة بين عامي "1971 - 1990"، وركزت على هدفين: الأول تقليل الفقر، والثاني إعادة هيكلة المجتمع، وحددت هذه السياسة استراتيجيات معينة لتقليل الفقر، مثل زيادة امتلاك الفقراء الأراضي ورأس المال المادي ورفع مستويات تدريب العمالة وزيادة الرفاهية العامة، وتم التركيز على تحسين الزيادة النوعية والكمية في عوامل الإنتاج المتاحة للفقراء، وكانت هناك مجموعات عدة من السكان الفقراء في الريف والحضر محل عناية خاصة باعتبارها الأشد فقرا.
من جهة أخرى، تم تبني استراتيجية لتوزيع الدخول في كل السياسات والخطط التنموية المشار إليها، هدفت مكافحة الفقر المدقع وإعادة هيكلة العمالة وزيادة تنمية الأعمال التجارية والصناعية للغالبية الفقيرة من السكان الأصليين؛ ما أفضى إلى نتائج مهمة، منها انخفاض معدلات الفقر وتناقص فوارق الدخول بين المجموعات السكانية المختلفة.
في الوقت نفسه، تضمنت السياسة الضريبية في ماليزيا بعدا اجتماعيا يستفيد منه الفقراء؛ وذلك بتأكيد مبدأ التصاعدية في ضريبة الدخل، إذ يبلغ الحد الأدنى من الدخل الخاضع للضريبة نحو 658 دولارا في الشهر، وتؤخذ الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحي، ونسبة عدد الأطفال، ونفقات تعليم المعوقين من الأطفال ومن يعول من الوالدين، ومساهمة صندوق التأمين الإجباري.
كما أن الدولة شجعت المواطنين المسلمين "أفرادا وشركات" على دفع الزكاة لصالح صندوق جمع الزكاة القومي الذي يدار بواسطة إدارة الشئون الإسلامية في مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ في ضريبة الدخل.
نفذت الحكومة في إطار فلسفتها وسياساتها المواجهة للفقر برامج محددة أبرزها:برنامج التنمية للأسر الأشد فقرا: ويقدم فرصا جديدة للعمل بالنسبة للفقراء، وزيادة الخدمات الموجهة للمناطق الفقيرة ذات الأولوية بهدف تحسين نوعية الحياة، وقام البرنامج بإنشاء الكثير من المساكن للفقراء وترميم وتأهيل المساكن القائمة وتحسين بنائها وظروف السكن فيها بتوفير خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي، برنامج أمانة أسهم البوميبترا: وهو برنامج تمويلي يقدم قروضا من دون فوائد للفقراء من السكان الأصليين وبفترات سماح تصل إلى أربع سنوات، ويمكن للفقراء أن يستثمروا بعضا من هذه القروض في شراء أسهم بواسطة المؤسسة نفسها، برنامج أمانة اختيار ماليزيا: وهو برنامج غير حكومي تنفذه مجموعة من المنظمات الأهلية الوطنية من الولايات المختلفة، ويهدف إلى تقليل الفقر المدقع عن طريق زيادة دخول الأسر الأشد فقرا، وتقديم قروض من دون فوائد للفقراء، وتقدم الحكومة من جانبها قروضا للبرنامج من دون فوائد من أجل تمويل مشروعاته للفقراء في مجال الزراعة ومشروعات الأعمال الصغيرة، منحت الحكومة إعانات مالية للفقراء أفرادا وأسرا: مثل تقديم إعانة شهرية تتراوح بين 130 - 260 دولارا لمن يعول أسرة وهو معوق أو غير قادر على العمل بسبب الشيخوخة، تقديم قروض من دون فوائد لشراء مساكن قليلة الكلفة للفقراء في المناطق الحضرية، توفير مرافق البنية الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق النائية الفقيرة: بما في ذلك مرافق النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية والمدارس والخدمات الصحية والكهرباء، ونجحت أيضا في توسيع قاعدة الخدمات الأساسية في المناطق السكنية الفقيرة بالحضر في إطار استراتيجية ،2020 دعم أكثر الأدوية التي يستهلكها الفقراء والأدوية المنقذة للحياة: كما أن إتاحة الفرصة للقطاع الخاص في فتح المراكز الصحية والعيادات الخاصة جعل الدولة تركز على العمل الصحي في الريف والمناطق النائية، وتقدم خدمات أفضل ومجانية في جانب الرعاية الصحية للحوامل والأطفال، القيام بأنشطة يستفيد منها السكان الفقراء: مثل إقامة المدارس الدينية التي تسهم في دعم قاعدة خدمات التعليم وتشجيع التلاميذ الفقراء على البقاء في الدراسة.
واستنادا إلى دخل خط الفقر في ماليزيا الذي يقدر بنحو 156 دولارا للأسرة الواحدة في الشهر، فإن مدى الفقر في الفترة 1990 - ،1995 من 9,8 في المئة إلى 8,1 في المئة، وسجل مدى الفقر المدقع انخفاضا من 3,9 في المئة في 1990 إلى 2,1 في المئة في ،1995 كما انخفض الفقر في المناطق الريفية من 15,6 في المئة إلى 13,2 في المئة للفترة نفسها، بينما في المناطق الحضرية انخفض مدى الفقر من 4,1 في المئة في 1995 إلى 3,8 في المئة في ،1999 وذلك طبقا للإحصاءات الرسمية.
ومن المؤشرات الرسمية ذات الدلالة أن 94 في المئة من الفقراء في ماليزيا يتاح لأطفالهم التعليم الأساسي مجانا ويستفيد 72 في المئة من الفقراء من خدمات الكهرباء و65 في المئة منهم يحصل على مياه نقية، وارتفعت توقعات الحياة لديهم إلى 74 سنة بدلا من 69 سنة، وهذه النسب جميعها تشير إلى نجاحات كبيرة مقارنة بالدول النامية "ذات الدخول المتوسطة العالية".
اتخذت جملة من الاستراتيجيات العملية لتحقيق الأهداف المحددة، أبرزها: تأسيس شبكة عمل مع مؤسسة مكافحة الفقر في الولاية وإنشاء روابط مع الوكالات الحكومية المعنية بالتنمية والتطوير الريفي؛ وهو ما أتاح الفرصة أمام أهالي القرية للتعلم من تجارب الآخرين وتطوير قدراتهم ومهاراتهم إلى جانب تقوية شعورهم بأهمية العمل الجماعي في مواجهة مشكلة الفقر، التركيز على التحول إلى الأنشطة الزراعية والتجارية التي تلبي حاجة الأسواق المحلية من خلال إدخال تقنية إنتاجية جديدة وزيادة إنتاجية المشروعات الزراعية والمنشآت التجارية، تشجيع الفلاحين على المشاركة في أنشطة اتحاد الفلاحين في المنطقة من أجل حشد الموارد المحلية، وتعبئتها لخدمة سكان المنطقة، وتهيئة إطار تنظيمي وتعاوني بين الفلاحين يهتم بقضاياهم في المنطقة، إقامة حلقة عمل لمجموعة الأسر الأشد فقرا "50 أسرة"، يتم فيها مناقشة البرنامج واختيار الأسرة التي تبدي رغبة في الاستفادة من البرنامج واتباع الخطوات المرسومة لتنفيذه.
لقد نجحت التجربة وسارعت كثير من الأقاليم الفقيرة الماليزية والمناطق الريفية الأقل نموا في تطبيقها والاحتذاء بها، ولعل العالم الإسلامي وحكام الدول التي تعاني من الفقر أن يجدوا في هذه التجربة ما يفيدهم من أجل صالح المواطن وتحقيقا للتنمية المستدامة، في الأخير نود أن نقول إن حكومة ماليزيا عندما أرادت أن تقضي على الفقر وتحقيق التنمية المستدامة سعت إلى وضع خطط وبرامج وآليات عمل لم تكتف فقط برفع شعارات فضفاضة، لذلك نجحت في تحقيق أهدافها وبالتالي علينا أن نستفيد من تجربتها ومن تجارب الدول المتقدمة في المجال نفسه لا نكتفي بالنظر هنا وهناك فلا فائدة ترجو من وراء ذلك.
* كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1087 - السبت 27 أغسطس 2005م الموافق 22 رجب 1426هـ
موضوع جميل
موضوع حيوي واتمنى مزيدا من القاء الضوء على اخر الاستراتيجيات للحد من الفقر
شكرااااا بارك الله فيكم افدتوني في مذكرتي كثيراااا.
حسين الغريب
احسنت المضوع جميل وكان عندي تقرير يومي في الجامعة واستفدت من الموضوع