حينما كان وتر النقاش، بيني وبين الدكتور عبدالوهاب الحكيم، مشدودا على آخره لم ترخيه إلا كلماته عن عروبة العراق وعدم القبول بالتجزئة والتقسيم تحت أي مسمى كان، وكان يؤكد دائما على وحدة الوطن العراقي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. .. وكان يؤكد المرة تلو الأخرى أن قوى الأرض لن تستطيع خلخلة اللحمة الوطنية للعراقيين. كان هذا الحديث قبل سقوط النظام العراقي الدكتاتوري البائد غير المأسوف عليه البتة. ولكن ماذا حدث، وماذا تغير يا أبا حيدر؟
تأتي دعوة السيد عبدالعزيز الحكيم للفيدرالية، وهي مقدمة لتقسيم العراق، والسيد يعلم أكثر من غيره انها كذلك، تأتي هذه الدعوة في ظل اتحاد الأمم وتكتلها، وما اتحاد الدول الأوروبية الحاضرة إلا نموذج على ذلك... والذي يجري في العراق له انعكاسات خطيرة على المنطقة بأسرها، بل أعاد إلى الأذهان ما جرى إبان الثورة الإسلامية في إيران، والتي لم تجلب خيرا إطلاقا على الواقع السياسي أو الاجتماعي للأخوة ابناء الطائفة الشيعية الكريمة في مختلف دول الخليج العربي... بل تم تحويل الصراع من صراع من أجل اللقمة وتمثيل إرادة الناس من خلال مجلس تشريعي منتخب، إلى صراع مذهبي بغيض انتشر في مختلف الاقطار الخليجية، ونمى قبال ذلك وعي طائفي يقدم ويرجح المصالح الطائفية على مصالح الوطن. وتم تقديم مصلحة أبناء الطائفة، كل بحسب طائفته، على مصلحة المواطنين... وبهكذا وضع سياسي/اجتماعي فقد فرح من فرح وزغرط من زغرط من الافاقيين وحملة المباخر وأهل النفاق... إذ إنهم لا يجيدون الدفاع عن مصالح الوطن والمواطنين فذلك بحر لا يجيد السباحة فيه أمثال هؤلاء.
الطائفي لا يعترف بالوطنية الجامعة وإن ادعى أنه مدافع عن الوطن والمواطنين جميعا، يفضحه زيف تملقه ونصال سهامه الموجهة إلى صدور وظهور أبناء الوطن. الطائفي لا يعترف بالدولة المدنية القائمة على العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، بل يعتبر كل فرد من أبناء طائفته وكأن "على رأسه ريشة" بتعبيرنا المحلي، والبعض يدعو إلى المحاصصة، فهل المحاصصة تبني وطنا؟ اسألوا أهل لبنان!
إن الوعي المتهافت والقميء المتلهي على ضفاف عقول البسطاء وشغاف قلوبهم وافئدتهم، ومكنات النهج الطائفي التدميري التي لم تتوقف، بل هي خفتت في سويعات قليلة مقارنة بتاريخ الإسلام المديد، هذا الوعي يحيل واقعنا المعاش ومستقبلنا المنظور الخليجي/ العربي والإسلامي، إلى فتات يسهل جمعه وتركيبه كما يسهل تفكيكه وإعادة تطويعه بالطريقة التي يراها أسياد العالم اليوم ومن بقبضته الثروة والمال والسلطة.
إن الطائفية في الأساس هي ردود أفعال، ومثلما يوزع شريط طائفي هنا فإن هناك شريطا يرد على هذا الشريط، ومثلما يكتب هنا فإن هناك من يكتب بشكل مضاد، وهكذا يدور الصراع في حلقة مفرغة منهكه للثروة ومضيعة لجهد القوى السياسية والاجتماعية التي تعمل من أجل وطن لا يرجف فيه الأمل... وقاموس الطائفيين محشو بالشتيمة والسباب الذي لا ينفد... فقاموس الشتم والسب يبدأ من بعد وفاة النبي "ص" إلى يومنا الحاضر، في محاولات للتسقيط والتخوين والتكفير إن لزم الأمر. هل في ذلكم الأمر "الشتم والسب" ابتكار أو إبداع، أو إعمال للفكر وشحذ للعقل وبناء لمستقبل الأوطان؟ الطائفية سب وشتيمة وهي لا تمت إلى العقل ولا إلى النهوض الفكري والتقدم الحضاري وبناء دولة المواطنة ولا إلى الإيديولوجيا ولا إلى الإسلام بصلة.
إن تقسيم العراق وتحويله إلى "كانتونات" و"ميني جيبات" صغيرة وتقطيع أوصاله ومشتركات شعبه العظيم، من تاريخ ولغة ودين وهوية جامعة، لا يبشر بخير أبدا، وينذر بعواقب خطيرة على المنطقة بأسرها، ويهدد العلائق الاجتماعية وخصوصيات السلم الأهلي الاجتماعي في الخليج العربي، إضافة إلى إضعاف الواجهة الحامية للوطن العربي من الجهة الشرقية.
أمر التقسيم يعيد الذكريات وينبش الجرح من جديد، حرج العروبة الغائر، العروبة المنتهك شرفها على مذبح العم سام... العروبة التي غدر بها سدنة الأنظمة السياسية في الوطن العربي... العروبة التي لا تكون ماء متبخرا في سماء الطائفة، إذ العروبة أحد الحوائط المنيعة للوطن العربي الكبير ولأجزائه المتناثرة... وهكذا علمتنا هيئة الاتحاد الوطني في خمسينات القرن الماضي على هذا الأرخبيل... فهل من مدكر؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1081 - الأحد 21 أغسطس 2005م الموافق 16 رجب 1426هـ