«حين تروى القصص، لا تنتبه النباتات إلى نموها، والطيور تنسى أن تطعم صغارها» الاقتباس السابق لأحد كتاب أميركا اللاتينية «إدواردو غاليانو» من كتابه الموسوم «كلمات متجولة»... ومنه ننطلق إلى موضوعنا، فحين تروى قصة المسرح عندنا هنا، فإن الطيور تسرف في إطعام صغارها، لأنها قصة معادة مكرورة، كما أن سيقان النباتات تزداد صلابة، ولا أعتقد أن أحدا يحتاج إلى التذكير بحال المسرح، الفن الأول الذي اقترن وجوده بوجود التعليم نفسه بداية القرن الماضي، وهو أحد مفاخرنا الرئيسية، بوصفنا روادا... أعتقد أن هذه الريادة بدأت تتبخر شيئا فشيئا، على رغم امتلاكنا لطاقات خلاقة في كل العناصر الفنية والإنتاجية، ودليل ذلك ما نصدره من فنانين ومخرجين إلى الأقطار المجاورة.
لقد وضع علي الشيراوي في حديث جانبي معه يده على الجرح الغائر، حين قال لماذا لا نفوز على رغم تعدد مشاركاتنا الخارجية بجوائز أفضل عرض؟ بينما لم نترك - يواصل - جائزة سواها إلا وفزنا بها على مستوى الإخراج أو التمثيل، أو السينوغرافيا، أو المؤثرات وغير ذلك... إن نقص الإمكانات هو السبب.
وذكر الفنان المسرحي إبراهيم خلفان أن إحدى مسرحياته التي اضطلع بإخراجها، رصد لها في التصور المبدئي موازنة تقدر بحوالي 8000 دينار، حتى يخرج العرض بالصورة المثالية، بحسب التخطيط الأولي، وما أن شرع في العمل على إنجازها، حتى تقلصت الموازنة إلى 20 دينارا، وعلى رغم ذلك خرج عرض «يوم نموذجي» من تأليف الإيطالي ألبرتو مورافيا بصورة جميلة، وأعتقد بل أجزم على أنه لو قدر لخلفان أن يخرج مسرحيته بالموازنة الموضوعة في التصور، لكان العرض أكثر إبهارا.
وشخصيا مازالت علامات الرضا تعتمل في دواخلي، بعد مشاهدتي عرض الفنان خليفة العريفي «صور عارية» لسبب واحد، وهو أنني شاهدت عرضا مسرحيا على خشبة مسرح على رغم ما قد يقال عنها بعدم صلاحيتها أو جهوزيتها لتقديم عرض عليها، أو ان المكان برمته غير مهيأ لاحتضان مسرحية (ولكن يعرف كل قريب من المسرح أن العريفي قاتل ليحصل على مكان يعرض فيه مسرحيته)! وهي المرة الأولى منذ سنوات، لقد نسيت/ نسينا الخشبة، ونتناسى باستمرار أن مكان عرض المسرح الأكثر قدما تلك العلبة الإيطالية، وأن البدائل الأخرى مهما تكن، ليست سببا كافيا لغياب الخشبة... وأن الخيال والإبداع الإنساني - من جهة أخرى - لا يحدهما المكان... لكننا نأمل ألا تساق هذه العبارة التبريرية باستمرار للتغطية على هذا النقص الفادح. وفي المسرح ليس ضروريا أن أعرض في مقهى أو في قلعة أو في مجمع تجاري... هي بدائل تفقد بريقها إذا كان سبب اللجوء إليها كامنا في غياب الخشبة، ولكنها ليست لب المشكلة... المشكلة أعقد من ذلك بكثير.
هذه مجرد لقطات، وأختم بمقولة لغاليانو - أيضا - «سئل المؤلف: لماذا تجعل البشر يبكون؟... لا أجعل أحدا يبكي، أقدم إليهم ذريعة فحسب»
العدد 108 - الأحد 22 ديسمبر 2002م الموافق 17 شوال 1423هـ