"لا تتقدم بطريقة حربية، يكفي أن تجمع القوة، وتقوم العدو، وتقضي عليه، ذلك كل ما في الأمر" صن تسو "فن الحرب" الصراعات السياسية في المفهوم الحديث لا تتطلب الحسم، لا تحتاج إلى نتائج قطعية ثابتة، يتحرك من خلالها المتحاورون السياسيون بحثا عن بعض التنازلات والمقايضات، بقدر ما تحتاج الحوارات والصراعات السياسية اليوم إلى فلسفة احتساء الحساء بسكين صغيرة، هذا ما سيجعل من السياسة أكثر إهدارا للوقت من جهة، ومدعاة للمرض والإعياء واستعجال الشيب من جهة أخرى.
إذن، الفكرة الأولى في هذه القراءة أن السياسة الدولية بعد حوادث سبتمبر لها استراتيجياتها الجديدة، قد لا تكون هذه الاستراتيجيات جديدة بالفعل، على صعيد الفعل السياسي، إلا أنها اليوم أكثر عمقا ووضوحا في منظور العمل السياسي.
هذه الخصائص تتمحور في هذا السرد المقتضب:
أولا سمية الأفكار التقليدية في مستوى الخطاب السياسي الجديد والمقصود هو أن قوى السياسة الدولية قد صنعت رأيا عالميا جديد، بمعنى أن الكثير من الأفكار السياسية التاريخية قد فقدت مضامينها الحقيقية.
"الثورة"، هذه الفكرة أو الاتجاه السياسي، أصبح "إرهابا" وأصبح الخطاب التعبوي أو الثوري "تحريضا على الإرهاب"، وعلى رغم أن المجتمع الدولي لم يصل إلى مقررات قانونية تفصل بين الدفاع عن الاحتلال مثلا وبين ممارسة الإرهاب، فإننا أمام حقيقة قارة، وهي أن الكثير من المفاهيم السياسية التاريخية فقدت مضامينها الزمكانية، وأصبحت ذات دلالات جديدة، وهي ذات مدلولات عكسية في الغالب. إن أي جديد على شاكلة "صلاح الدين الأيوبي" أو "جيفارا" يسعى التيار الإسلامي أو اليسار السياسي إلى إنتاجهما، سيكونان ببساطة "بن لادن" جديد.
ثانيا مفهوم الأمن الاقتصادي "عسكرة الاقتصاد" وهذا ما يجعل من الشركات المتعددة الجنسيات في الولايات المتحدة تعمد إلى توظيف جنرالات الحرب النتقاعدين كاستشاريين عسكريين، معظم الشركات الأميركية الكبرى اليوم تحمل مجالس إداراتها "خبراء حرب"، ولهم أراء مسموعة ومعتبرة في توجيه الاستثمارات وتنميتها في مناطق من العالم، أو إلغائها وتجميدها في مناطق أخرى.
إن "عسكرة الاقتصاد العالمي" كمتغير سياسي جديد يحمل الكثير من المستجدات على صعيد العمل السياسي، إن أي اتجاه نحو الحرب، تدعمه استثمارات معينة وترفضه أخرى، قد تدعمه "تجمعات إمبراطوريات صناعة السلاح"، إلا أن معظم استثمارات التنمية البشرية والاقتصادية المنظمة لا تقبل على دخول مثل هذه المناطق المتوترة.
ثالثا السياسة الداخلية بوصفها سياسة خارجية لابد من أن ننتهي من المفاهيم السياسية الكلاسيكية، كالفصل بين الشئون الداخلية للدول والخارجية منها، إذ ان مجمل الاتفاقات الدولية في هذا الصدد أصبحت "إرثا تاريخيا" لا أهمية له.
لا تستطيع أية منظومة سياسية اليوم أن تفترض لها "خصوصية" تتذرع بها عن مسايرة الوضع العالمي الجديد، وليس ثمة اليوم من تجارب مغلقة، بل إن الاتصال الإنساني في مفاهيمه الجديدة خطى "عمليا" ما يتخطى منتجنا النظري بمراحل، حتى أصبح أي حديث عن الاتصال بين الشعوب والحضارات مجرد "ترف إعلامي"، لا أكثر ولا أقل.
هناك تداخل حديث في السياسة الدولية استخلص منه عدة نتائج، إلا أنها في مجملها لا تنفك عن أن أي فعل أو عمل سياسي في الداخل، هو بالضرورة حديث عن الخارج ومصالحه، لا توجد منطقة وسطى حيادية، الدول اليوم تتداخل في حلقة سياسية معقدة، تصبح معها "مناهج التعليم" في دول الشرق الأوسط، مسألة سيادة وبقاء للولايات المتحدة الأميركية!!.
إن مشروعات الإرادة الدولية المسيطرة كمشروع الشرق الأوسط الكبير، أو مشروع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي دلالات مهمة على انتهاء وتاريخية الكثير من المفاهيم السياسية الرائجة، فحين تتعاطى "الدول العربية" مع هذه المشروعات "صاغرة" فهي مطالبة بأن تكف عن اتهام المجموعات المدنية المعارضة بأنها تنزاح أو "تتآمر" مع الخارج في بعض مراحل عملها السياسي.
لابد من ملاحظة هذه المفارقة بعين الاهتمام، واعطائها قدرها من الأهمية في توصيف هذا المؤثر السياسي الجديد. إن أي مراوحة في "التعصب" للداخل فقط، هي نزوح مباشر إلى انتهاج سلوك "بربري" من منظور الشرعية الدولية الجديدة، والتي تقف على هرمها الولايات المتحدة الأميركية.
رابعا الخارج بوصفه "سياسة داخلية" إذا كان الداخل هو بمثابة سياسة داخلية، فالعكس ممكن وله حضوره في العمل السياسي، "الخارج" اليوم هو تمثيل مباشر لمصالح ومقررات الداخل، الإمبراطوريات العالمية حين أمرت - وكان من مصلحة الحكام العرب القيام بذلك - بدعم الإسلام الأصولي، كانت تمارس سياسة داخلية في الدول المتحالفة معها، وهي اليوم ذاتها، تعدل من خياراتها عبر الدعوة إلى قمع هذه الأصولية وقبرها.
إن الالتزام بتطبيق "املاءات الخارج" هو توصيف مهم لاستنتاج أن الكثير من ملامح السياسة الداخلية في الدول العربية، هي "خارج"، وكما ذكرت تأتي ظاهرة الدعوة إلى تعديل "المناهج الدراسية" كأهم الصور السياسية في هذا السياق، قس عليها بعض الظواهر الأخرى كتنظيم المدارس الدينية في باكستان، والتعديلات الدستورية الأخيرة في جمهورية مصر العربية، والتعديلات "الانفكاكات" الشكلية من قبضة "حزب البعث السوري" على العمل والفعل السياسي في سورية، وقس عليها الإصلاحات السياسية في السعودية وباقي دول الخليج.
خامسا التشكيلات الاجتماعية والثقافية الجديدة من الملاحظ أن الرباعي الاجتماعي "الأردن، اليمن، سورية، السعودية" يمثل أوضح الصور في سوء التموضع السياسي المناسب، فالرباعي الآنف الذكر "اجتماعيا" و"ثقافيا" يعيش مشكلة عالمية. وهي نزوح ثقافته وخياراته الاجتماعية إلى التموضع المواجه لما ترفضه المصالح الاستراتيجية للدول المسيطرة على العالم اليوم، وعربيا، ينتمي أكثر من شاركوا في الهجمات الإرهابية في العوا خلال السنوات الخمس الماضية لهذه الدول.
الثقافة اليوم، ليست "ترفا سياسيا"، بقدر ما هي ضرورة ملحة في سياقات العمل السياسي الحديث، وان البقاء على "قمع" الحراكات الثقافية والاجتماعية في إطاراتها المدنية يعتبر رهانا خاسرا، وسواء كان إسقاط هذا الرهان من الداخل أو بفعل الخارج، فالنتيجة واحدة.
سادسا ضمور "التكتلات الإقليمية"، ونهوض التكتلات "السيو اقتصادية" لابد من مطالعة تلك الاختراقات السياسية التي بدأت في الظهور على أجزاء الكثير من التكتلات الإقليمية الدولية، هذا ما نلاحظه في التكتل العربي أو الخليجي، أو حتى تكتل دول الكومنولث لما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، ثمة رؤية جديدة في مفهوم التكتلات السياسية تذهب إلى إعطاء عاملي الاقتصاد والنظام السياسي الأولوية المباشرة، عوضا عن الأديان او القوميات والأعراق.
التكتلات الدولية الجديدة تتسم بأنها محدودة العدد كبيرة الطيف، عمليا ثمة الأوروبي الأميركي، وثمة التحالف "الروسي الصيني الكوري الشمالي" وثمة التحالف "الأميركي الياباني الشرق آسيوي" ما يتيح ضرورة إيجاد قراءات سياسية جديدة لتوازن القوى والمصالح.
في الحقيقة، إن هذه التجاذبات الجديدة، هي ما يعطي السياسة حقيقتها التاريخية، بأنها مهنة المتاعب والشيخوخة، فعن أي حسم سياسي يتحدث السياسيون، ليست العملية إلا خوضا في جدلية الدور والتسلسل لدى الفلاسفة، والدورو التسلسل لا نهاية له.
*كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1077 - الأربعاء 17 أغسطس 2005م الموافق 12 رجب 1426هـ