"النهاية المطلقة في وضع المحاربين في تشكيل عسكري، هي غياب التشكيل، عندما يغيب التشكيل عن المرء، فإن الجواسيس والحكماء لا يستطيعون وضع استراتيجية مضادة" صن تسو "فن الحرب" لا أفضل مطلقا إطلاق توصيف شامل "كهنوتي" حيال توصيف السياسة الأميركية، فليست الولايات المتحدة رهينة "ليبرالية اقتصادية"، أو "تعاليم مسيحية"، "سلوكيات إمبراطورية".
هي إمبراطورية فاقدة للتشكيل، لذلك قد يصعب علينا، سواء كنا جواسيس أو حكماء، أن نبني رؤية سياسية قارة وثابتة حيالها، ثمة قاعدة بيانات تتصف بالتعقيد والتناقض في توصيف الدبلوماسية الأميركية والقرار السياسي الأميركي.
ليبرالية اقتصادية
عندما نتحدث عن الولايات المتحدة من منظور "ليبرالي اقتصادي" نستطيع أن نطلق الكثير من الشواهد والنظم، وأن نستدل بسلسلة طويلة من المؤسسات الاقتصادية الأميركية المعولمة، والتي تحاول فرض وتيرتها، فيخيل لنا أن الولايات المتحدة الاميركية هي "غول اقتصادي" فقط، وهي فيما تقرره من سياسات وردود فعل على الساحة الدولية، تدعم تغولها الاقتصادي بحثا عن أسواق جديدة.
قد يكون من السهل أن نطلق العنان لهذا التأويل، ومن ثم نقوم بعملية تأويل جميع السياسات الأميركية في هذا السياق، إلا أننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفسر الكثير من السياسات الأميركية عبر هذا التأويل الكلياني، ما الذي يغري الأميركيين "اقتصاديا" لدعم اقتصاد البرازيل المتهالك، ودعمه بمليارات الدولارات كلما أوشك على السقوط. هذا السلوك تحكمه ببساطة "السلوكيات الإمبراطورية"، فليس للاقتصاد الاميركي مصالح استراتيجية في الاقتصاد البرازيلي.
السلوك الإمبراطوري يلزم الولايات المتحدة بدعم الكثير من الدول الاميركية الجنوبية، إذ إنها في الغالب دول قامت باتباع الإمبراطورية الأميركية اقتصاديا وسياسيا، وفشلها في تحقيق الاستقرار هو فشل للمنظومة السياسية الإمبراطورية الأميركية، لذلك تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان حقيقة تاريخية تسعى لترويجها "الولايات المتحدة تمتلك أفضل منظومة سياسية اقتصادية للمجتمع الإنساني".
مسيحية التأويل في الكونغرس
كذلك هي الولايات المتحدة من منظور "تبشيري مسيحي" نجد أن جل الخطابات السياسية الأميركية ملغومة بالنصوص المسيحية، هذا إذا ما أضفنا حقيقة تحدثت عنها الكثير من مراكز قياس الرأي العام الأميركي وهي "إن 75 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن العناية الإلهية هي من تحمي اميركا وليست صواريخها النووية". نجد أننا لا نستطيع فهم "الولايات المتحدة" بعيدا عن المكون الديني.
فإذا كان الكثير من المسلمين قد اعتقدوا أن "حوادث تسونامي" هي عقاب رباني، فإن الصورة ليست مختلفة في أروقة الكونغرس الأميركي، ففي ترجمة مهمة لغسان غصن - الباحث في الشئون الأميركية - لمقتطفات من كلمة زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الكونغرس الأميركي "توم دولاي"، نجد ذات الفهم والتأويل، ولعله في الكونغرس كان نوعا ما أكثر "غباء".
يقول توم دولاي: وكل من يصغي إلى أقوالي هذه ولا يعمل بها، سيكون أشبه بمغفل بنى بيته على الرمل، هطلت الأمطار وجاءت الفيضانات، وهبت الرياح، وضربت البيت، فأنهار، ودمر كليا، وكما في سفر الرؤيا، وخصوصا الرقم سبعة، فإن الأمور تنساق في الآتي:
أولا - العنصرية، لأن الغالبية العظمى من ضحايا الكارثة هم ممن يسميهم أمثال دولاي "السمر الصغار".
ثانيا - التدين المتعصب، لأن معظم الضحايا ليسوا مسيحيين، وحتى إن كان من بينهم مسيحيون، فهؤلاء ليسوا "مولودين من جديد".
ثالثا - الاستعلاء والتجبر، لأن البلدان المتأذية ليست مثل الولايات المتحدة، مدينة مضيئة على جبل... باركها الله... وكانت منيعة فخورة.
رابعا - الاطمئنان الى المساندة، لأن هناك أعدادا كبيرة ونافذة تشاركه في هذه الأراء والمشاعر، وتدعمه في مثل هذه المواقف.
خامسا - جهل الآخرين او تجاهلهم، لأن التيار الرئيسي متواطؤ أو لا يعلم، أو لا يكترث، أو ربما، لا حول له ولا قوة.
سادسا - السعادة لحدوث الكوارث، لأن عشرات الملايين من الأميركيين يؤمنون بكونها أدلة توراتية على قرب انتهاء العالم وعودة المخلص.
سابعا - التزاوج بين الايديولوجيا واللاهوت، لأن هذا الأمر، الحاصل للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، يستأثر بالحكم ويحتكر السيطرة على البلاد.
إننا عبر هذه الترجمة نتهور في إطلاق حكم كلياني آخر، وهو أن الولايات المتحدة ببساطة "دولة دينية"، إلا أننا سنعجز بالتأكيد، في أن نفهم مبررات الكثير من السياسات الأميركية. لا يمكننا أن نفهم الاشتراك المسيحي اليهودي سياسيا، ولا حتى عن تقاعس الولايات المتحدة عن دعم الكثير من الشعوب المسيحية المضطهدة إسلاميا أو بوذيا، كذلك لا نستطيع فهم "التقاعس" عن نشر المسيحية في شتى أقطار العالم.
السلوك الإمبراطوري
ما معنى أن تكون الولايات المتحدة "إمبراطورية"، هذا ما يحيلنا إلى محاولة فهم السياسات الأميركية من منظور أنها ذات أبعاد "إمبراطورية"، لنا أن نحيل بعضا من السلوك الأميركي لهذا السياق الثقافي، إلا أن هذه الإمبراطورية لها ما يميزها عن بقية السياقات التاريخية لسلسلة الإمبراطوريات الآفلة.
الإمبراطورية الأميركية، تتصف ببعض النقاط المهمة، أولا/ هي إمبراطورية مصنوعة في زمان معقد، قد يصعب أن تنشأ فيه إمبراطورية من الوزن الثقيل، فليس السلاح النووي هو ما جعلها تتبوأ هذه المكانة، وليس الاقتصاد المتنامي فقط، وليست التركيبة الاجتماعية ونظم الحريات. بل هو مزيج هذه العوامل مع بعضها بعضا.
ثانيا - السلوك الإمبراطوري الأميركي يتصف بأنه سلوك "عالمي" و"كوني"، استطاعت الولايات المتحدة أن تجر معها مؤسسات المجتمع الكوني، لتكون شريكة في السلوك الإمبراطوري، هذا ما يحيل على أن الولايات المتحدة نجحت حتى اليوم، في أن تقنع وتسير المجتمع الدولي على تبني مصالحها الإمبراطورية بطريقة مميزة وذكية.
سنستعرض "ما هية التشكيل السياسي" للولايات المتحدة في المقال القادم، فقط كان هدفنا في هذا المقال تقويض أية كليانية مسبقة عن التشكيل السياسي الأميركي، ذلك أنها نموذج "اعتباطي" يتصف بالتنظيم.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1073 - السبت 13 أغسطس 2005م الموافق 08 رجب 1426هـ