لي أن أعرف الاتصال الإلكتروني بأنه ذلك السياق الحاوي لعمليات إرسال الرسائل، إلا أنني لا "أحصر" بهذا الرسائل النصية، التي تتبادل خلال الاستعمال المباشر من قبل الجمهور الإنترنتي في شبكات الاتصال والحاسبات، بل أحاول أن أمدد من مفهومي للتعريف ليشمل جميع أشكال وأنواع المحتوى الإلكتروني content، سواء من الرسوم أو البيانات أو الرسوم التمثيلية أو الكاريكاتور.
ولابد من اشتراط أن يكون هذا الاتصال "الإنترنتي" مدركا من قبل المشاركين بالكامل، بمعنى أن مشاركة الآخر في التفاعل مع الرسالة الإلكترونية هي خاصية رئيسة في تحديد الفعل الإنترنتي الاجتماعي، بل إن إدراكه للقصدية الاجتماعية في هذه العملية التبادلية هو جوهر الفعل المجتمعي.
هؤلاء المشاركون في هذا التفاعل الإلكتروني هم بمثابة جالية اجتماعية متكاملة، هذا ما جعل "هاوارد" يحاول جاهدا تأسيس هذه الجالية تحديد معالمها في كتابه "الجالية الإفتراضية"، وفي الجالية الافتراضية عرض علينا "هاوارد" سمات الجاليات الفاعلة في الاتصال الإنترنتي، ويعلق في إحدى أهم فقرات كتابه قائلا "أكثر الناس الذين يحصلون على أخبار من أجهزة الإعلام التقليدية، كانوا غافلين عن التشكيلة المختلفة من الثقافات الجديدة التي تطورت في شبكات الحاسوب العالمي خلال السنوات العشر الماضية". استطيع تلخيص ما حمله هاوارد إلى أنه يعتقد بأن المجتمع الإنترنتي يحتوي على جاليات وتقسيمات ثقافية مختلفة ومتنوعة، وأن الشبكة بدأت تحتوي على تعقيدات اجتماعية مشابهة لتلك الموجودة في المجتمعات الإنسانية الواقعية. العملية أصبحت خاضعة لإشكاليات حديثة تتم في سياقات إلكترونية أكثر تعقيدا، وهذا ما يحملني إلى اعتبار هذه الجالية تتسم بخاصية مهمة، وهي "السرية"، إذ ان أكثر ما يميز العمل الاجتماعي الإنترنتي أنه يتصف بالسرية، والتآمرات والصراعات الخفية على المتابعين.
تأسيس الحقل الإلكتروني
يميز عالم الاجتماع الفرنسي Bourdieu العلاقات الاجتماعية ضمن سياق يدعوه "الحقل"، ويعرفه كنظام تنافسي من العلاقات الاجتماعية يشتغل طبقا لمنطقه الخاص أو قواعده المعترف بها. ويشتمل الحقل على الكثير من مظاهر الصراعات من أجل السلطة بين الأصناف المهيمنة عليه. ولكل سلطة شرعية تمنح على شكل رأس مال رمزي. هذه الحقول قد تتفاوت في تركيبها، لكن العملية الكفاحية لرأس المال، خصوصا خلال عمليات البناء والتحشيد لرأس مال الهيمنة، ثابت في كل حقل، مهما تمايزت أصناف السلط وأدواتها. ويأتي ثانيا، المفهوم الرئيسي الآخر في نظريات Bourdieu، وهو habitus، الذي يعرف كنظام الترتيبات المكتسبة، ويشتغل على المستوى العملي تحديدا، كطبائع الفهم والتقييم أو كسلسلة المبادئ الفاعلة والمسيطرة، وهو الذي ينظم التفاعلات ضمن الحقل في اسلوب "موضوعي"، يتصف بقدرتنا على ملاحظته، وبأنه ممتد الفاعلية في منظور عكسي. أما البعد الثالث في النظرية فهو "الرأس مال الرمزي"، ويعرف Bourdieu نوعين أساسيين من الرأس مال الرمزي: الرأس مال الاقتصادي، والرأس مال الثقافي. يمكننا مجملا، إحالة الرأس مال الاقتصادي للمفهوم الماركسي، إلا أن الرأس مال الثقافي، على أية حال، هو المفهوم الفريد في نموذج Bourdieu النظري، الرأس مال الثقافي يمكن أن يوصف كقدرة ثقافية. وهو يشابه الرأس مال الاقتصادي، إذ لابد أن يحمل شرعية، وهذه الشرعية تنظم عبر المؤسسات الفاعلة ضمن المجتمع. بمعنى أنه في حال الرأس مال الثقافي، شرعية رأس المال الثقافي لا تنظمها "الدولة"، بل المؤسسات التربوية والفنية والمدنية ككل.
إن الأهمية الحقيقية للرأس مال في نموذج Bourdieu النظري، هو ذلك الدور الذي يلعبه في الكفاح المستمر بين السيطرة أو الانعتاق على الأصناف الأخرى من الرساميل أو السلط الفاعلة. هو خلال استملاك الرأس مال، وصولا في مرحلة متقدمة إلى استعمال الرأس مال الرمزي لممارسة العنف الرمزي.
إلا أننا لا نغيب عن تمام الرساميل في النظرية، فثمة رأس المال الإجتماعي، ويتمثل في تلك المصادر المستندة على عضوية مجموعة من المجموعات، بما يشمل العلاقات، وشبكات التأثير والدعم. أما آخر الرساميل، فهو الرأس مال الرمزي، بما يتضمن، السمعة المتراكمة، الشرف، وكل المضامين الأخلاقية.
حدود الحقل الإلكتروني
لكي نوظف نظريات Bourdieu في سياق الحقل الإلكتروني الإنترنتي، لابد أولا، من تعريف حدود الحقل المفترض بشكل واضح، وأصناف الهبيتوس habitus، والرأس مال الرمزي، الذي يسيطر على السياق. وهذه المهمة ليست صغيرة أو سهلة.
نظريا هناك الكثير من المناقشات عن حدود وتخوم البيئة لهذا المجتمع الإفتراضي، خصوصا مع اعتماد هذا الحقل "المتحرك" على التقنيات المتغيرة بتسارع الرأس مال الثقافي يمكن أن يوصف كقدرة ثقافية. وهو يشابه الرأس مال الاقتصادي، إذ لابد أن يحمل شرعية، وهذه الشرعية تنظم عبر المؤسسات الفاعلة ضمن المجتمع. بمعنى أنه في حال الرأس مال الثقافي، شرعية رأس المال الثقافي لا تنظمها "الدولة"، بل المؤسسات التربوية والفنية والمدنية ككل.
هناك طريقتان لتصور حدود هذا الحقل، الطريقة الأولى/ هي أن نرى أن كل نظام يكون أساسه الكترونيا يعتبر حقلا مستقلا؛ الإنترنت حقل واحد، الأرشيف الإلكتروني حقل آخر. وهكذا..، الطريقة الثانية/ هي أن نرى كل هذه المكونات حقلا وحيدا، وأن المكونات الأخرى هي أنظمة ضمن هذا الحقل الوحيد. سأستعين بالرؤية الثانية مؤيدا ما ذهبت إليه إليزابيث لين لولي "باحثة أميركية اجتماعية"، إذ انها اعتبرت مفهوم بورديو للحقل مفهوما سائلا بما فيه الكفاية لدمج هذا التداخل المربك نوعا ما، استعانت "إليزابيث" على هذا الخيار بأن بورديو نفسه استعرض "الجامعة" كحقل واحد، على رغم تداخل الكليات "الطب، الهندسة، الفنون الجميلة". وعلى رغم الفروقات الكبيرة والقلقة بين هذه الكليات، فإنه اثر اعتبار الجامعة حقلا واحدا، وهذا ما يحيلنا إلى فهم رجاحة هذا الخيار "التجميعي"، على الخيار الأول.
بعد تعريف الحقل وتحديد تخومه وحدوده، لنا أن نعطي الاعتبار للتركيبات التابعة habitus، والرساميل الرمزية، التي يجب أن تكون ثابتة في الحقل. وفي هذه المنطقة تحديدا نحن نعتمد على التخطيط الأكثر تجريبية. بمعنى أنه لابد من الإلتزام في تعريفها على نتائج البحوث الإمبريقية، التي تصدق بالدليل التجريبي، وتجمع عبر الملاحظة والتفاعل.
السلطة القديمة
ثمة "تأريخ" إمتلاك لأفراد معينيين على أماكن الشبكة، هؤلاء لهم مواقع ثابتة في مساحة السلطة داخل الحقل الإنترنتي، وهم في غالبية الأحيان يشعرون بأنهم أصحاب سلطة، لهم حق إملاء شروط الممارسات الحالية داخل الحقل، هم بمثابة سلطة ضبط اجتماعية، هذا النمط من التفاعل مشابه للنمط السائد في المجتمعات الصغيرة، اذ إن سلطة الشيوخ كمجموعة تعتبر سلطة ضبط فاعلة في مجتمعات القبيلة. ويعرف هذا التقليد بأكثر أنماط التفاعل فاعلية. هذه السلطة القديمة، تكتسب نتائج تراكمية بمرور الوقت، عبر بروز رأس مال ثقافي متغول، فضلا عن الرأس مال الاقتصادي، وهذا يوضح تحديدا مفهوما رئيسيا في نموذج Bourdieu للتفاعل وإعادة الإنتاج الثقافي.
امتيازات النخبة
امتيازات صنف ما داخل الحقل لها فاعلية مهمة ومؤثرة،، خصوصا على أجهزة الإعلام داخل شبكة الإنترنت، مثل انتساب أي فرد مع نظام "بيت" معين، يتميز بمعاملة خاصة وفريدة، هكذا، مستعملو "الحسابات الخاصة"، كالحسابات في الجامعات والمراكز البحثية الرفيعة المستوى، يمتلكون منزلة أكبر داخل الحقل، مقارنة مع أولئك المستخدمين الاعتياديين للأنظمة التجارية، الأعضاء الذين يمتلكون حسابات خاصة "مدفوعة" أو مجانية، يعتبرون بمثابة الطبقة الأرستقراطية داخل الحقل، أما البقية فهم أفضل تمثيل لبوليتاريا المجتمع الإنترنتي.
الرأس مال الثقافي
أصحاب "المنزلة العالية" في النظام، لهم رأس مالهم وسلطتهم المستقلة، وتستعمل لفرض قيود وضوابط إجرائية أو أدبية على الأعضاء الآخرين في الحقل، المستعملون الجدد لأنظمة الحقل دائما ما يتعرضون للسخرية من قبل الأعضاء من الطبقة المثقفة داخل الحقل، وهم متهمون في الغالب بالجهل، وقلة الخبرة، وتتراوح ردود أفعال الصنف الثقافي المهيمن من الرعاية لهؤلاء المستخدمين الجدد إلى العدائية في التعامل معهم، وقد تصل الصورة إلى كارثية في إرسال المشاركين الجدد الذين لا يعرضون استملاكا كافيا من هذا "الرأس مال الثقافي" إلى خارج الحقل كليا
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1070 - الأربعاء 10 أغسطس 2005م الموافق 05 رجب 1426هـ