سألني وزير خليجي صديق خلال دردشة عن مستقبل المنطقة وما يعدّ لها من مشروعات للسيطرة على مقدّراتها بشكل نهائي عما إذا كانت واشنطن وهي المنحازة لإسرائيل انحيازا مطلقا، والتي تكيل بمكيالين تجاه قضايا العرب والمسلمين، قادرة على تمرير تلك المشروعات بسهولة؟! مبديا استغرابه - وهنا بيت القصيد - مما إذا كانت شعوبنا ستقبل بمثل هذه المشروعات المهيمنة؟! وإذ أخذتني الحيرة للوهلة الأولى كيف أن الوزير المذكور يراهن على الشعوب في صد الهجمة الأميركية وليس على الحكام غير أني تداركت الأمر سريعا وقلت له: انظر يا معالي الوزير!!
تعلم الأميركيون الكثير في العقود الأخيرة من تجاربهم الفاشلة، كما درسوا تجارب بريطانيا الناجحة في العصور السابقة، وصاروا مقتنعين بضرورة ارتداء «اللباس الوطني» لكل بلد مملكة كان أم جمهورية قبل الدخول إليها لشراء حاجاتهم بأسعار زهيدة وقضاء نزهاتهم في بلادنا، فما بالك وهم يريدون اليوم السيطرة الكاملة والنهائية على كل مقدراتنا وتحديد مصائرنا في عالم حكم الامبراطورية الواحدة المنبعثة من إسدال الستار نهائيا على الحرب الباردة!
ثم عرجت معه على موضوع العراق فورا في اعتباره الملف الأكثر سخونة من غيره من ملفات «التغيير والإصلاح» المعروضة في المزاد العلني الدولي هذه الأيام. وقلت له: ان تقديري الشخصي للموقف بخصوص العراق يفيد أن أميركا التي كانت تحكم العراق خلال العقدين الماضيين بلباس وطني راديكالي متطرف عندما كان مطلوبا من العراق أن يلعب دور الورقة الاقليمية المثيرة للحروب والفتن والتفرقة، قررت بعد 11 سبتمبر/ أيلول ان تقلب الطاولة على معادلة الداخل العراقي «الوطني الراديكالي» بعد ان استنفذ أغراضه وباتت واشنطن في حاجة إلى «لباس وطني» من نوع جديد تسيّر عبره ليس فقط «عراق الغد والمستقبل» بل «وخليج الغد والمستقبل» و«إيران الغد والمستقبل» و«تركيا الغد والمستقبل».
ان تكون حصان الفيدرالي «الوطني» اليوم و«الشعبي» مستقبلا هو ما لخّصه رئيس المؤتمر الوطني العراقي أثناء اجتماعات لندن الأخيرة للمعارضة العراقية بالقول: «من حقكم أن تفخروا اليوم بأن جورج بوش وافق على جميع برامجكم!».
وأنا في تقديري أن كل الأوزان والأثقال والحضور المتنوع (المزركش) منه وغير (المزركش) بكفة، وهذه الجملة لهذا الرجل المعروف بكفة أخرى. وأقول هذا عن متابعة ومعرفة دقيقة ومتواصلة منذ أن ظهر هذا الرجل على الساحة، إنها الكذبة الكبرى التي يريد ترويجها بدلا عن الحقيقة المرة التي تفيد بأنه مشروع جورج بوش في العراق في حوادث أفغانستان وعندما عينوا حامد قرضاي رئيسا للوزراء كتبت في حينه أقول إن المنهج الأميركي الجديد هو: كيف تسوّق حكومة بأفراد مقطوعي الجذور ولا شعبية لهم بلباس وطني معتمد مهمته فتح الطريق لخلق شعبية لهذه الحكومة العتيدة!
إن كل قرقعة السلاح الأميركي وغير الأميركي سواء استخدم أم لم يستخدم بكفة وما يوفره العشرات بل المئات من أصحاب «اللباس الوطني» العاملين باعتبارهم جنودا مجهولين من أجل «عراق الغد والمستقبل» بكفة أخرى.
إن من حق المعارضة العراقية بأطيافها المختلفة وتياراتها وزعاماتها، والكثيرون منهم أصدقاء شخصيون لي، لاسيما الضاربين عميقا في التراب والتراث العراقي أن يقولوا ما يشاؤون للدفاع عن أنفسهم وتبرير ما يقومون به اليوم، وان ينفوا كل التهم الموجهة إليهم اليوم من كل حدب وصوب وهم محقون في ظني في التبرؤ مما ينسب إليهم من تورط في أوحال السياسة الأميركية على الأقل بشكل واع ومقصود، لكنهم ليسمحوا لي بالقول مرة أخرى - وأرجو ألا يغضبوا عليّ مجددا كما فعلوا سابقا - إن تقديري هو ان سيناريوا أميركيا يُعد له في الخفاء وبإحكام شديد في إطار دراسات واختبارات «وطنية» عراقية ستفرز الحكومة «الوطنية» العراقية ما بعد صدام حسين لن يكون لهم فيها الدور الرئيسي ممن حضروا اجتماعات لندن.
لذلك قلت وأقول إن هناك فرقا بين ان تناضل القوى المعارضة في أي بلد كان إلى ان تجد تجاوبا دوليا معها فتستغله في اللحظة المناسبة لخدمة قضيتها الوطنية، وبين ان تكون تلك المعارضة في حال شبه عجز أو نيام بسبب فشل متكرر وإفشال متعمد ساهمت فيه القوى الدولية لجهود تلك المعارضة، فيتقرر يوما ما ولأسباب ومبررات وتقديرات تخص القوى الدولية الفاعلة وفي إطار معركة شاملة تخص استراتيجيتها العامة فتقرر استدعاء تلك المعارضة للعب دور ما في خدمة الأهداف العامة المرسومة.
نعم، من السهل بمكان ان تقول المعارضة انها الفرصة الذهبية السانحة التي يجب ألا تضيعها، لكن ذلك يتطلب كفاحا مريرا ومن نوع آخر هدفه إخراج كل «الواجهات الوطنية» التي درّبتها ومرّنتها وطوعتها أميركا أو أية قوة دولية معينة من دائرة الفعل الرئيسي وإعلان واضح وشفاف عن خطر ثالث بين الخصم الداخلي والعدو الخارجي وليس انخراطا في مشروع «الألبسة والأردية الوطنية» بحجة أننا عاجزون عن منع تحقق المخطط الأميركي! ولما كان واقعا لا محالة فلنأخذ نصيبنا من الكعكة أو ربما تحايلنا وساعدتنا الظروف لأكل الكعكة كلها إذا ما دخلنا اللعبة كاملة!!
إنها لعبة خطيرة لا دور فيها للجمهور، حتى جمهور الأحزاب التي تمثلونها ناهيك عن جمهور الشعب، إنها لعبة تفتيت مقصودة هدفها إضعاف الجميع ليأتي قرضاي العراقي العتيد بلباس وطني ومشروعية دينية ومقبولية جماهيرية تحت حراب الأميركيين وجعجعة سلاحهم التي تعجّ بها المحيطات والقارات استخدم هذا السلاح أم لم يستخدم. المهم انه سيكون «الحامية الكبرى» التي بها ينبغي ان تتكرس «الألبسة الوطنية» وتصبح حكومات شعبية عتيدة.
وهنا قال لي الوزير: وكل هذا وما ينبغي ان يتبعه بعد ذلك لبلدان أخرى بـ 29 مليون دولار.
قلت له: يا معالي الوزير: إن هذه الـ 29 مليون دولار مخصصة فقط لتصرف على التصميمات الخاصة بكل «لباس وطني» وعلى أجهزة الكمبيوتر قبل ان تترجم على الأرض، وأما ترجمتها على الأرض فتلك حكاية أخرى بحاجة إلى موازنة أخرى من المقرر ان يوفروها من مواردنا النفطية والغازية والمائية. إنها لعبة بريطانيا العجوز التي لاتزال تلعب دور المعلم الأول والأخير لكل امبراطور جديد يقرر الزحف على بلادنا، والذي يقرأ جيدا يظفر. والذي يحسن الظن فقط يخسر
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 107 - السبت 21 ديسمبر 2002م الموافق 16 شوال 1423هـ