إنه "الوهم" الذي جعل من "عجيل" وأصدقاءه "في رواية لكاتب عراقي" يضعون خنصر أصابعهم اليسرى ويرفعون إبهامهم وسط خف الجمل، ثم يضعون خنصر اليمنى على إبهام اليسرى، ويرفعون إبهام اليمنى إلى الأعلى وينحنون ليشربوا حليب الناقة من "خف الجمل".
كانت البداية عندما سأل أصدقاء عجيل عن "سر" ما يقوم به قائلين: ماذا تفعل يا عجيل؟!؛ قال لهم بكل ثقة: أشرب حليب الناقة: "إنه لذيذ جدا، يقوي البصر، ويصقل العظام ويقي المعدة من الأمراض و... و...". كان التشكيك والضحك على عجيل، ثم تبدد التشكيك شيئا فشيئا. قال أحدهم لنجرب فقد يكون عجيل على حق: إنه لم يترك هذه العادة من الصباح حتى المساء، فلا بد أن في الأمر إن!.
أخذ أصدقاء عجيل يسيرون أينما تمر القوافل، وكلما وجدوا خف جمل وضعوا خنصرهم وسط الخف ورفعوا إبهامهم ووضعوا الخنصر الآخر على الإبهام المرفوع، ثم وضعوا أفواههم حتى منتصف الإبهام في اليمنى أو اليسرى "ليرضعوا من حليب الناقة"، وبدأ الواحد يزايد على الآخر في تصديق هذا الوهم. أحدهم يتجشأ ليثبت انه شبع. آخر يشير بسبابته قائلا: حليب تلك الناقة، أفضل من هذه الناقة؛ ثالث يؤكد أن نظره صار مثل الصقر، أو زرقاء اليمامة، ورابع يشير إلى زوال آلام عظامه، أو آلام معدته؛ وهكذا صار الكل يقلد عجيل، وأصبح الكل يعتبر الوهم حقيقة ويكذب على نفسه. كنت أظن إلى فترة طويلة أن ما جاء في قصة عجيل من خيال واسع لحكايته مجرد "فلتة" إبداعية حتى التقيت في مايو/ أيار العام الماضي الكاتب العراقي زهير الجزائري في مؤتمر المنظمة العربية لحرية الصحافة وسألني عن الأوضاع في البحرين وما الجديد عندنا، فقلت له: يبدو اننا شربنا حليب الناقة من خف الجمل كما في قصة عجيل: هل قرأتها؟ ضحك، وتكركر من الضحك، وكاد أن يسقط أرضا، ثم قال: قرأتها إنها لفلان "..." تصور أخي "بوفهد": كنا نمارس عادة "عجيل" ونحن صغارا في النجف ونضع خنصرنا في خف الجمل ونشرب حليب الناقة، تماما كما رواها الكاتب، وها أنتم في الألفية الثالثة، وفي عصر الانترنيت والاتصالات والمعلوماتية تمارسون "تقليعة" "عجيل" وتشربون حليب الناقة من "خف الجمل!".
قبل أكثر من عام نشرت مقالا في "الوسط" بشأن حمى الحديث عن "مرسوم بقانون الجمعيات" آنذاك في 16 يوليو/تموز 2004م تحت عنوان: "كم نحن بحاجة إلى ذبابة الخيل"، وذبابة الخيل هذه هي التي تحرض الحصان على التفكير، فعندما تحط الذبابة على رأسه يحرك هذا الأخير رأسه للتخلص منها بعد أن استفزته للتفكير، وليس عبثا أن يسمي الفيلسوف اليوناني أرسطو نفسه بأنه "ذبابة الخيل"، وأقتبس من المقال المذكور جزئية لعلها مازالت موضع جدل قائم بعد إقرار قانون الجمعيات السياسية بالسرعة والطريقة اللتين تم تمريره بهما عبر بوابة مجلسي الشورى والنواب وتصديق جلالة الملك عليه، والارتباكات التي تحصل حاليا في مضامينه، وما أحدثه من انقلاب في العمل السياسي، فتحولت الجمعيات الخيرية "عند وزارة العدل" بقدرة الظروف إلى "أحزاب سياسية"، بينما التنظيمات السياسية، أصبحت خارج اللعبة السياسية إن لم تتعاط مع "القانون المشرع"، وكأن الكل دخل "الكذبة الكبرى" طواعية برجليه، اليمنى أولا أو اليسرى "سيان". وكتبت في "كم نحن بحاجة إلى ذبابة الخيل": "كنا نتوقع أن يشرعن مجلس النواب عمل الأحزاب السياسية العلنية، وأن نتقدم خطوة إلى الأمام صوب العملية الديمقراطية، بدل أن نتراجع خطوتين إلى الخلف، فاستبدل النواب "الأحزاب بالجمعيات"، ولأننا نؤمن بالتدرج قلنا: لا بأس، فبعض الجمعيات خارجة من رحم تنظيمات سياسية وطنية، وهي امتداد تاريخي لها، وامتداد لعلاقاتها الفكرية مع الأحزاب والتنظيمات الأخرى في البلاد وخارجها، ولم يتغير في المسألة شيء، لكن أن يمحى التاريخ النضالي هكذا بكل بساطة، وتقلب صفحته وكأن شيئا لم يكن، ويضع وزير العدل "القواعد المنظمة لاتصال الجمعية بأي حزب أو تنظيم سياسي أجنبي"، إضافة إلى فرض جملة من القيود على حركة الجمعيات السياسية السلمية، لا يتسع المجال لذكرها هنا، فإن الأمر يستدعي حاجتنا إلى "ذبابة الخيل" التي تستفز الحصان، وتحرض على التفكير عند أرسطو".
وتماشيا مع الحدث آنذاك قبل العام وامتداده إلى اليوم الذي نندب حظنا فيه ذكرت في المقال خطورة الانفصال التاريخي النضالي وعدم تسمية الأسماء بمسمياتها مشيرا إلى انه: " في 15 فبراير/ شباط "المقبل" - صار ماضيا - من المفترض أن يحتفل اليساريون البحرينيون بالذكرى الخمسين لتأسيس أول حزب يساري في الخليج، باستثناء العراق وإيران، وهو "جبهة التحرير الوطني البحرانية - جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي حاليا" ولا نعرف على وجه الدقة: هل احتفال هذه الجمعية بهذه الذكرى العزيزة حتما على قلوبهم، سيتم "سرا أم علنا"، بالذكرى الـ 50 للجبهة أم بالذكرى الرابعة للجمعية مع إلغاء التاريخ النضالي الطويل لهذا التيار من الذاكرة الوطنية بموجب "قانون الجمعيات"؟!". انتهى الاقتباس. الذي نعرفه جيدا، أن "التحرير" احتفلت بالذكرى "الخمسين" وكرمت مناضليها بسلام، وبحضور رسمي، كما حضر ممثلون لأحزاب ومنظمات وشخصيات فكرية وسياسية عربية مناضلة ومرموقة، ولكن كل ذلك مر قبل تمرير قانون الجمعيات السياسية، ولأننا لا نعلم الغيب، فإنه بحسب تنفيذ القانون المشرع الجديد للجمعيات السياسية، فإن الذي جرى في فبراير الماضي، لن يتكرر في فبراير المقبل؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى جل التنظيمات السياسية التي عرفتها البحرين. في مقال آخر عن "الهم" ذاته نشرت في 22 / نوفمبر تشرين الثاني 2004 تحت عنوان : "أسئلة سوسن وأطروحات سميرة": " سألت سوسن في الجزء الثاني من رواية رضوى عاشور "خديجة وسوسن": "كيف يتعكر ماء النبع ومن أين تأتي نباتات الوحشة وبأي قانون تتكاثر وتعوق المجرى وتسد الطريق؟".
هذا السؤال الذي طرحته سوسن على نفسها - وسوسن هي الابنة، وخديجة هي الأم في الرواية - كان بمثابة محاولة للفهم وترتيب مفردات عالمها المختلف والمتناقض مع والدتها على رغم التداخل والتشابك لعالمين مختلفين.
العالم دائما يتخلق عبر الأسئلة والهموم التي نعيشها. الأسئلة دائما مهمة حتى وان كانت عفوية أو مصحوبة بالشكوك والتشكيك. وفي "خديجة وسوسن" مشهد "ندوة" لثلاثة "مختلفين" في الشكل والملبس وأسلوب الحديث جالسين على المنصة وهم: وزير وكاتب ونقابي قضى 13 عاما في السجن لمواقفه السياسية، "فالكاتب تحدث بالفصحى السلسة فتنقل الوزير بين الفصحى والعامية وكان يخطئ في الحالين، أما النقابي فكان كلامه بعامية بسيطة ومؤثرة، وعلى رغم الاختلاف كادوا يتفقون فيما قالوه وكأنهم قرأوا على الشيخ نفسه واتفقوا مسبقا فيما بينهم". "ص 134"".
قبل العام توصلت تسع جمعيات سياسية "مشاركة ومقاطعة" إلى اتفاق بشأن مشروع قانون التنظيمات السياسية، وكانت حوارات حامية الوطيس عن "تأجيل" الاتفاق بشأن آلية طرح القانون على: "الشعب، أو على البرلمان، أو إرساله إلى جلالة الملك". وكان اتفاق مثل هذا بين تسعة مختلفين في الشأن السياسي والمصالح المتضاربة بمثابة رسالة واضحة بأن هناك إجماعا وطنيا على أمر يهم الوطن، وإن كانت الشكوك وعلامات التعجب تثار بين الحين والآخر عن "ما الذي يجعل اليمين واليسار والوسط والمشارك والمقاطع يجمعون على الشيء نفسه؟".
هذه الشكوك وعلامات التعجب تثار الآن من جديد بعد إقرار قانون الجمعيات بشكل آخر للتعاطي مع القانون المشرع الخاص بهم، إذ تقلصت التسع إلى ثماني، والـ "8"، ربما إلى ست أو إلى أربع أو إلى لا شيء، والرضوخ إلى السائد، أو الأمر الواقع، وشرب حليب الناقة من خف الجمل بكلمات تضمينية تظهر من هنا وهناك نسيان بأن: "كل في الوجود يطلب صيدا... غير أن الشباك مختلفات".
لقد شربنا "حليب الناقة من خف الجمل" حتى شبعنا من الذين يخلطون "السم في حلو الزاد"، ومن الذين يحملون المعارضة المقاطعة لانتخابات 2002م كل مصائبنا، أو من الذين يعتقدون أن المعارضة المشاركة المؤمنة بالتغيير من تحت قبة البرلمان وراء هذه التراجعات، فيما يبقى الطرف الثالث الرئيسي خاليا من المسئولية وراء دفع الأمور إلى هذه المواصيل من دون بارقة أمل عند الناس الذين تقصدهم سميرة في رواية رضوى عاشور حين تقول: "أتحدث عن الناس العاديين الذين لا يدعون شيئا، همومهم كثيرة وعيوبهم كثيرة، ولكنهم لا يدعون أنهم سفراء ومبعوثون وقادة وثوار وقابضون على حقيقة الدنيا والآخرة... عندما أقول ناس افهمي أني أقصد الغلابة!". "ص 135".
* كاتب بحريني
العدد 1066 - السبت 06 أغسطس 2005م الموافق 01 رجب 1426هـ