العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ

بين قلمين يا خادم الحرمين

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

توقف قلب خادم الحرمين الشريفين رحمه الله منهيا حقبة مديدة من العمر استمرت أربعا وثمانين سنة، شغل منها ما يقرب من ستين سنة في مواقع التأثير المباشر وغير المباشر في قرار الدولة، منها ثلاث وعشرون سنة كان هو الرأس والمصدر الأول للقرار فيها.

غادر الملك شعبه والعالم من حوله ليترك الجميع أمام سجل حافل بالكلمات والمواقف والتصريحات والأعمال، وأمام وثائق قولية وفعلية، ومقابل تاريخ لاتزال آثاره سارية المفعول يشعر بها القريب والبعيد.

كل ذلك موثق ومتروك للكتاب والباحثين ليتأملوه ويستنطقوه بتفاصيله الكاملة، فنحن الآن من عاصر الملك، ونحن قريبو عهد بوجوده بيننا، لاتزال القرائن بين أيدينا، وذاكرتنا لم يتسرب إليها النسيان بل مازالت متمكنة من مساعدتنا على استحضار الظروف والملابسات التي أحاطت بالكثير من القرارات والمواقف والمتغيرات.

المعضلة الكبرى في غالبية الكتابات عن القادة وأصحاب القرار، والمتصدرين لمراكز التأثير في العالم أنها تكتب بأحد قلمين، قلم سوداوي مظلم لا يترك للنور مسربا، ولا يسمح للضياء بالومض، يعمد دائما إلى تتبع العثرات وتضخيم الزلات، وإذاعة العثرات، وقلم آخر ممجد يسلب الإنسانية إنسانيتها لتبدو ملائكية فوق البشر وفوق الأخطاء والهفوات، وقد صح عن رسول الله "ص" انه قال كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

هذان القلمان لا ينصفان التاريخ، ولا يتحدثان ما يليق بالإنسانية، ولا يعتمدان مصدرا يرجع إليه في البحث والتحقيق وتثبيت الحقائق، بل يتجاوزهما الزمن بعد حين، ويندثران لأنهما لا ينفعان علما ولا يعطيان حقيقة.

إن قلم الاعتدال لا يرى الكمال لأي بشر كان، فالنقص هو طبيعة البشر، والكمال لله وحده، نعم حسب الإنسان أن يجتهد وأن يعمل ويسعى، وأن يبقى في تطلع دائم للتصويب والتعديل والتطوير والإصلاح.

وحتى لا أقع تحت تأثير هذين القلمين سأتحدث عن أمر عايشت أحداثه، ولم أكن بعيدا عنه، إن لم أكن قريبا منه، ففي العام 1400هـ أي قبل 26 سنة من الآن تسارعت حوادث داخلية وخارجية، أنتجت حراكا داخليا في الطيف الذي أنتمي إليه، ثم ما لبث هذا الحراك أن تحول إلى قناعة ارتأى أن يعبر عن نفسه خارج السور والوطن، فاندفع يجهد نفسه إعلاميا وسياسيا ليعبر عن ذاته وآرائه وتطلعاته.

كانت تلك الفترة مشوبة بالكثير من الحوادث والتطورات التي كتب غالبية الزملاء الكتاب عنها الشيء الكثير، وكانت الأفعال تدفع إلى ردود أفعال معاكسة، أما سخونة الأجواء فقد أثرت وسخنت كل شيء حولها.

استمرت تلك الحالة في تصاعد مستمر حتى العام 1414هـ، كان رأي خادم الحرمين الشريفين رحمه الله يدفع تلك الآراء للتعبير عن نفسها في الداخل وعلى أرضها وساحتها وبين شعبها، وأن تتعاطى مباشرة مع أصحاب القرار وأهل الحل والعقد في قرار الدولة، وكان هذا الرأي الشجاع والحكيم شديد الإرباك والتشويش للصورة المرسومة عن عدم إمكان التعاطي الداخلي، وعن انعدام إمكان الحراك ضمن المعادلة الداخلية.

في هذا الوقت كانت الآراء المطلبية في غالبية الدول العربية والإسلامية تعاني الأمرين من القسوة والإقصاء وأحيانا المطاردة والسجن، ناهيك عن التعامل مع أصحابها على أنهم خونة لبلادهم ومجتمعهم.

يمكنني الآن وبعد مرور 12 عاما أن أتصور الحكمة والثقة والشجاعة والقراءة المبكرة للمستقبل التي تمتع بها فقيد الوطن، ويمكنني أن أتصور نهج التجميع للمتناثر من الأطياف والمتباين من الآراء، مادامت ضمن سقف الوطن، وضمن الأساسيات المشتركة للعقيدة الإسلامية، هذا فقط ضمن ما علمته وما تسنى لي الإطلاع على تفاصيله، لكني كنت مشتغلا طوال هذه الأيام بقراءة ما اطلع عليه غيري من زعماء دينيين وقادة سياسيين، وكتاب ومفكرين وهم يتحدثون من مواقعهم عن آثار الفقيد الممتدة إلى أقصى نقطة على هذه المعمورة.

أما الآن فقد غادر خادم الحرمين رحمه الله هذه الدنيا الضيقة في تقييماتها، المحدودة بمادية معادلاتها، إلى رب كريم وسعت رحمته كل شيء، ليكون أمام سعيه وجهده وعمله، ضمن معادلة فرضتها الرحمة الإلهية، وهي أن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة لا تجزى إلا مثلها، "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون" "الانعام: 60".

أما المسيرة فيعقد الأمل فيها من جديد على يد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، فسلاسة انتقال السلطة بهذا الهدوء التام، يستتبع من دون أدنى شك وريب انتقال الأمانة بكل ثقلها وملفاتها، ليكون التحدي هو تحدي التطوير والقفز المتوازن لما فيه خير الدين والوطن وأهله، على ألا يبقى هذا التحدي وقفا عليهما فإلى جانبهما بقية أصحاب السمو أمراء وأفراد الأسرة الحاكمة وإلى صفهما بقية أبناء هذا الوطن، هنا أستعير ما كتبه عالم الدين اللبناني العلامة السيدهاني فحص في صحيفة "الحياة" يوم الأربعاء الماضي: "نحن على ثقة بالملك الجديد الذي عرفناه في كل المحطات، حكيما دؤوبا"، يبحث عن السلام، والحوار والاستقرار والنمو والنهوض والمصالحة في كل الأقطار العربية والإسلامية، وهو الآن - أي الملك عبدالله - أمام تحدي الإضافة على نشاطه وإنجازاته الكبيرة، إكمالا وبناء على الأساس الذي رسخه سلفه بالشراكة معه، وهناك إنجازات كبرى تنتظره ونسأل الله أن يسدد خطاه لتحقيقها".

* عالم دين سعودي

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً