"بالإمكان عرض الهمج في المعارض أو تعليمهم تقليد التصرفات الأوروبية، والهمجي يقدم على أنه الأقرب إلى الطبيعة والأنقى أخلاقيا من المتمدن المتحلل أو الفاسد، أما البرابرة فلا يمكن عرضهم في المعارض أو تعليمهم، فهم خطرون وغير قابلين للإنقاذ، البرابرة هم المشروع الليبرالي الذي انحرف وقد تلقوا التعليم الخطأ ولم يعد بالإمكان إعادة تعليمهم".
سولتر
لم أجد أكثر من هذه العبارات لسولتر وضوحا في وصف النسخة الغربية من الليبرالية الجديدة، لأحاول إسقاطها على ما لدينا في الخليج العربي من ساسة وإعلاميين يحاولون ترويج أنفسهم، بأنهم "ليبراليون جدد"!
البرابرة الجدد، أو الليبراليون الجدد في الخليج يفتقدون القدرة على الفهم والاستيعاب، هم أكثر خطورة من الهمج، فالهمجي نستطيع في مرحلة من المراحل، أن نصل معه إلى حلول وسطى، إلا أن البربري "الليبرالي الجديد"، شخصية مغلقة العقل، ضيقة الاستيعاب، مصابة بالكثير من العلل العقلية الشديدة الخطورة، فهم على رغم بساطة تكويناتهم السياسية والثقافية والمعرفية مقتنعون بأنهم "المنقذ" الأخير وأنهم رجال المرحلة لإنقاذنا من انحطاطات عالمنا العالم العربي المصاب بتخمة من المشروعات الأيديولوجية الفاشلة.
لا ترتبط الليبرالية الجديدة مجملا بالليبرالية الكلاسيكية، فالليبرالية الجديدة عبارة عن ذلك الشكل التوحشي "البربري" لليبرالية، أو هي ذلك الإنقلاب "الغريب" من الليبراليين الذين رفضوا مسبقا توحش الشيوعية وتنبؤاتها الحاسمة لمسيرة التاريخ، فأخذتهم الأيام لتأسس أدبياتهم وخطاباتهم توليتارية مقابلة وهم لا يدركون!
يعتبر "آدم سميث" و"ديفيد ريكاردو" المنظران الرئيسيان لتغول الليبرالية الجديدة، ويعتبر كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث أول كتاب يدرس في علم الاقتصاد بما يحتوي ترويجا مباشرا لهذا المفهوم المتوحش، ظهرت الأفكار في بريطانيا وراجت فيما بعد بالولايات المتحدة، وهي اليوم تصل سواحل الخليج، ويروجها في العادة كتاب صحافة "فارغون" من المعرفة، ومتملقو "سياسة" في الوقت نفسه.
الليبرالية الجديدة غربيا تحكمها السوق، والسوق حكم الأقوياء وتكتلاتهم القاهرة، وعلى حد قول آدم سميث، فإن السوق تدار وتتحرك عبر "يد خفية". وهي ليست بحاجة لأي تدخل من أحد، ولكن في الغالب لا يمكن لنا أن نتفق على أن السوق تدير نفسها بطريقة إنسانية، فالسوق لا ترحم، وقد تأتي بالكثير من الويلات على مجتماعتنا الخليجية.
مؤسسات السوق الأميركية والأوروبية تقوم بتلميع نتائج السوق الكارثية عبر دعمها للمجتمعات الغربية والإنسان الغربي، في مجمل ما تنفقه من ضرائب أدبية أو إجبارية يسهر عليها اليسار السياسي كأقل الاستحقاقات التي يحاول الذب عنها، لكن العادة العربية تفترض علينا "مع تدني مساهمات الكثير من الإمبراطوريات المالية العربية في التنمية المدنية" أن نتوقع حالة من اللانظام، في التقدير المتفائل، وحالة من الدمار والتشرد للإنسان العربي في التوقعات الأكثر واقعية.
تذهب الليبرالية إلى تعريف المجتمع باعتباره "مجموعة من الأفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته". ويطلق على هذا الرأي المذهب "الذري"، حيث ينظر للأفراد كـ "ذرات متنافرة" بداخل المجتمع. هذا يتطلب الإقرار بعدمية المجتمع ونهايته، خلاف ما تركز أبجديات البرابرة الجدد في الدعوة والترويج لما يسمى "الأسرة الواحدة"، "المجتمع الواحد".
لابد من الترويج لما يسمى بالفردية الملكية، فالفرد هو المالك، ويمتلك نفسه وقدراته الخاصة به، وهو لا يدين بها للمجتمع. وعلى رغم جميع التجاذبات التي نالت مفهوم الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما، فلقد اجتمع الليبراليون على الرغبة في خلق مجتمع يكون فيه كل فرد ذا قيمة خاصة.
لابد لمروجي الليبرالية الجديدة في شكلها الخليجي المشوه ان يتنبهوا إلى أن الحرية الفردية التي تعنيها الليبرالية لها مسئوليتها، وأن الحرية الفردية هي ما اجتمعت عليه الليبرالية بكل مفكريها وفلاسفتها وساستها على أنها الخيار الوحيد للإنتاج والإبداع، وهكذا يصرح جون ستيوارت ميل "إن المبرر الوحيد لممارسة القوة بشكل صحيح تجاه أي عضو في المجتمع المتحضر والتي تكون ضد إرادته هو منع الضرر عن الآخرين"، بمعنى أن كبت الحريات العامة في المفهوم الليبرالي، وإي ممارسة مخالفة كالتدخل في ملابس الفرد واعتبارها دليل جهل وعمى، هو تحديدا "تخريف"، لا علاقة له بالفكر الليبرالي من هنا أو هناك.
كذلك هو أدب "الحرية"، فإن كان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون أن الحرية هي قدرة الشخص على التصرف بالشكل الذي يختاره، فإن أحدث المفاهيم الليبرالية للحرية الإيجابية هي قدرة الأفراد على التطور. أما ما تذهب له الليبرالية في نسختها الخليجية المشوهة هو أشبه بالقمع للحريات ومصادرة حقوق الأفراد بدواعي التخلف والجهل والتأخر السياسي والثقافي.
الحرية هي العقل، والعقل هو صورة تنويرية، ورؤية التنوير هي تحرير البشرية من قيود "الخرافة والجهل" وإطلاق العنان لعصر العقل، أما الليبرالية الجديدة في الخليج فالتنوير في خطابها الإعلامي مصاب بالعقد، العقدة من كل شيء ديني، أو العقدة من الحجاب أو العمامة او حتى العقدة الجغرافية والقومية، خطاب التنوير أضحى في الخليج مبتورا ومهلهلا، بل أصبح ذا دلالة معاكسة لكل ما هو حسن.
لابد من تحقيق العدالة في المجتمع الليبرالي، والعدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحق. والعدالة الاجتماعية تذهب إلى توزيع المنافع المادية في المجتمع مثل الأجور والأرباح، والتوفير المتوزان العادل لكل الاحتياجات الطبيعية للإنسان كالعمل والغذاء والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي.
الليبرالية تقتضي المساواة في الفرص، أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي وتحسين وضعه بجهده وعمله الدؤوب. والملاحظ أن الليبراليين الجدد في الخليج هم اكثر من يستفيدون من نقض المساواة في الفرص فهم في الغالب قليلو خبرة وبسطاء الاطلاع ومحدودو الثقافة، إلا أنهم ينالون الكراسي الجديدة والمناصب الرفيعة بشكل يجعل حديثهم عن تساوي الفرص أو انهم ليبراليون مدعاة للضحك والسخرية!
تتسم أخلاقيات الليبرالية الاجتماعية بقبول التنوع الأخلاقي والثقافي والسياسي. فقد ردد الليبراليون كثيرا المقولة الشهيرة لفولتير "أنا أكره ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله!". لذلك دأب الخطاب الليبرالي الغربي على رفض الرقابة أو أي وسيلة لمنع حرية التعبير في المجتمع، وضد أي ثوابت، وأيا كانت هذه الثوابت، إلا أن الليبراليين الجدد هم أكثر من يطالبون بتوحيد الاختلافات المجتمعية عبر قمع "المختلفين" معهم، تركز خطاباتهم الإعلامية على قمع الآخر والاستهزاء به وتحقيره، فإذا كان الخطاب الإسلامي متهما بالتكفيرية، فإن الخطاب السياسي والإعلامي الليبرالي مصاب بأمراض أكثر خطورة وسمية.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1060 - الأحد 31 يوليو 2005م الموافق 24 جمادى الآخرة 1426هـ