العدد 106 - الجمعة 20 ديسمبر 2002م الموافق 15 شوال 1423هـ

الديمقراطية الأميركية واحتواء «الإسلام الجهادي»

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يبدو أن أميركا تنبهت أخيرا إلى أن خطاياها السياسية في الدول العربية، قد جلبت عليها وعلى مصالحها الحيوية الكوارث، التي أصبحت بين يوم وليلة في مواجهتها. فإن كانت المواجهة الحادة لأميركا مع ما تسميه «الإسلام الجهادي» المسلح، تحت شعار الحرب الدولية ضد الإرهاب، زادت حدة، فإن مواجهتها لشيوع حال الغضب والكراهية في الرأي العام العربي لا تقل حدة، لسبب واضح هو أن حربها ضد الارهاب قد تنتهي غدا أو بعد غد بانتصار الأقوى على الأضعف، لكن اقتلاع الغضب من الصدور والكراهية من القلوب، في عالم تحركه العواطف، أمر يحتاج إلى جهود كثيرة وعقود طويلة من الزمن! كما أن قصر النظر السائد في التيارات اليمينية المتشددة داخل الإدارة الأميركية الحالية، والتي تؤمن بالحرب الشاملة والساحقة الماحقة ضد كل من يقف ضد السياسة الأميركية، سيؤدي بالضرورة إلى مضاعفات أخرى تزيد الكراهية وتشعل الغضب أكثر مما عليه الحال الآن...

وفي المقابل فإن التشدد الأميركي الواصل إلى درجة الحرب، على ما تسميه إرهاب الإسلام الجهادي، والتساهل والتسامح الأميركي - في الوقت نفسه - مع الارهاب الصهيوني الراهن ضد الشعب الفلسطيني، لا يساعد على انجاح الحرب الأميركية ضد الارهاب، ولا يضمن لإسرائيل الأمن والاستقرار اللذين تدافع عنهما أميركا بشراسة.

والحقيقة التي علينا أن نوضحها بصراحة لصناع هذه السياسة، أن سمعة أميركا باعتبارها دولة حرة وديمقراطية، راعية للمبادئ والأعراف والقوانين التي نمت عليها حضارتها الحديثة، قد اهتزت بعنف، وانها لذلك فقدت صدقيتها باعتبارها صديقا أو حليفا للحكومات العربية، مثلما فقدت اعجاب الشعوب بها، ذلك الاعجاب الذي تحول يوما إلى حلم الجنة الموعودة!

ودليل ذلك، ان كثيرا من الحكومات العربية والاسلامية الصديقة والحليفة للولايات المتحدة، أصبحت الآن اكثر قدرة - ربما للمرة الاولى - على المصارحة ومعارضة بعض السياسات الاميركية، بسبب جموحها وعدم عدالتها في التعامل وخلل توازنها فيما بين العرب واسرائيل، ناهيك عن الخلاف الذي صار علنيا ايضا على مفهوم الحرب ضد «الارهاب الاسلامي» وحدودها، وعلى الاصرار العنيد والمتعنت على الحرب ضد العراق في الوقت الذي تضاعف دعمها ومساندتها لاسرائيل التي تشن ابشع حروب الابادة والتدمير ضد الشعب الفلسطيني.

فإن كان ذلك يحدث من الحكومات الصديقة لامريكا، والمرتبطة معها بسياسات وعلاقات رسمية، لها التزاماتها، فما بالكم بالشعوب غير المقيدة - على الاقل بينها وبين نفسها - بمثل هذه القيود والكوابح!

ولأن واشنطن اكتشفت ان حروبها العسكرية الجامحة ضد اعداء تزايدوا على خريطة العالم العربي والاسلامي، تحتاج إلى غطاء سياسي ايديولوجي واسع وتشعب الاتجاهات الفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، فإنها عادت أخيرا إلى طرح نظرية الاحتواء... احتواء مخاطر الارهاب بالقوة العسكرية الباطشة، واحتواء الغضب والمعارضة والكراهية بالترويض السياسي والثقافي والإعلامي... وكلاهما مترابط طبعا في اطار استراتيجية شاملة، حتى وإن كانت غير محددة المعالم بالنسبة إلى الكثيرين في هذا العالم المتوجس من خطر الانفلات الاميركي الراهن والمقبل!.

هكذا تبدو الادوار موزعة في الادارة الاميركية، فهناك تيار الصقور بزعامة نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع رامسيفيلد ومستشارة الامن القومي غوانداليزا رايس ورئيس مجلس سياسات الدفاع بيرل، يتولى الاحتواء العسكري بكل اتجاهاته، لأنه يؤمن بأن القوة العسكرية التي توافرت للولايات المتحدة في هذا الظرف التاريخي النادر - الذي لا يتكرر - يجب ان تسرع بحسم كل المعارك «المعادية أو المارقة أو المتمردة» في العالم، قبل ان تزداد المخاطر المهددة للأمن القومي الاميركي قوة، وبالتالي يجب استخدام هذه القوة العسكرية لفرض امر واقع جديد على دول العالم، وخصوصا على الاعداء المحتملين ، مثلما على المنافسين الطامعين، من الصين واليابان شرقا إلى الاتحاد الاوروبي - الذي اصبح يضم 25 دولة - غربا، مرورا بروسيا والعالم العربي والاسلامي.

وهذا الاخير اصبح في نظر الصقور الاميركية «المختبر الجاهز» لتجريب القوة العسكرية الساحقة الماحقة، ضد المخاطر التي يحتويها، من ارهاب القاعدة وطالبان، إلى جماعات الاسلام الجهادي المنتشرة من اندونيسيا شرقا إلى الجزائر غربا، مرورا بالعراق الذي يقدم الآن على انه نموذج للدولة الشريرة القادرة على ايذاء الآخرين، بما تملكه من آسلحة دمار شامل وفق الرؤية الاميركية المغلفة.

ومن السذاجة ان نتصور ان تيار الصقور هذا قاصر على هذه الرموز الحاكمة في البيت الابيض، أو على بعض الشيوخ والنواب اليمينيين في الكونغرس، لكنه تيار تمتد جذوره الايديولوجية إلى مراكز صناعة العقل وتشكيل الوعي وتلقين الرأي العام الاميركي، بما فيه من مثقفين ومتعلمين وانصاف متعلمين، بفضل تأثير الصحافة ووسائل الاعلام الالكترونية الجبار، الامر الذي لا ينبغي الاستهانة به، مثلما لا يجب الاستهانة بمعاهد البحوث والدراسات المنتشرة في اميركا، والتي تضخ للكافة، افكارا وآراء وتحليلات مؤثرة، تجد صداها عند صناع القرار في واشنطن.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد اعد «معهد هدسون للدراسات السياسية والاستراتيجية» وثيقة حديثة بطلب من الادارة الاميركية، تحدد مجموعة من السيناريوهات لصراعات العالم، التي يتعين على واشنطن مواجهتها خلال العقدين المقبلين (2002 - 2020)، ويبدو انها تتفق تماما مع تفكير تيار الصقور الحاكم وتبرر له شن «الحرب العادلة».

يقول رئيس ومؤسس المعهد المذكور«ماكس زينجر»: ان الامن القوى الاميركي بل الامن الغربي كله، اصبح مهددا منذ العام 2001 بالتصدع، بسبب تصاعد «الجهاد الاسلامي المسلح» وقيامه بشن عمليات ارهابية تسقط فيها آلاف الضحايا الاميركيين والغربيين - على غرار هجوم سبتمبر/ ايلول 2001 - وان فجوة هائلة ستفصل بين الغرب والعالم العربي والاسلامي الذي ستتساقط معظم حكوماته ونظمه في أيدي المتطرفين الاسلاميين، وان عددا من الدول العربية في مقدمتها مصر والعراق والسعودية وسورية، فضلا عن ايران الاسلامية، ستمتلك اسلحة نووية وبيولوجية هائلة تهدد بقاء «اسرائيل» كما تهدد الأمن الاوروبي الاميركي.

وفي مواجهة ذلك، يمضي «زينجر» الاميركي المؤيد لاسرائيل بشدة، قائلا: إن هجوم «الاسلام الجهادي المسلح» على الغرب بشراسة، سيؤدي إلى عدة احتمالات - سيناريوهات ابرزها:

- يتضمن الاحتمال - السيناريو الثاني، عنصر الانشقاق المحتمل بين مسلمي آسيا وهم الغالبية الساحقة، وبين العالم العربي، حين ينحسر «الاسلام الجهادي» من اسيا، ويتركز في الدول العربية وحدها، وهذة تنقسم حتما بين مجموعتين واحدة تقبع تحت هيمنة منظمات الاسلام الجهادي التي تشن حربا ارهابية ضد اميركا واوروبا واسرائيل - !! - والثانية قد تقتصر على مصر وحدها، تحافظ على مناهضتها لهذه المنظمات المتطرفة من ناحية، وعلى علاقتها بأميركا من ناحية اخرى، ولكنها لن تستطيع منع الهجمات الارهابية على المصالح الغربية.

- يقول السيناريو الثالث الذي يصوغه السيد «زينجر» الاميركي اليميني المتصهين، ان الاسلام الجهادي المتطرف سيسيطر على دول تضم 900 مليون مسلم على الاقل، وسيقوى حتى داخل اميركا ذاتها، بما يساعد الهجمات الارهابية التي تسقط عشرات الآلاف من القتلى الاميركيين، وبما يؤثر على الحياة الاميركية بأشد مما اثرت الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي، في وقت تجد اميركا نفسها غير مهيأة بدرجة كافية لمواجهة هذا العدو.

- اما السيناريو الرابع، فيرى ان تيار الإسلام الجهادي هذا سيتراجع ويسقط، ليس فقط بسبب الحرب الاميركية ضده، ولكن ايضا بسبب قمع النظم العربية الديكتاتورية المعرضة لخطر الزحف الإسلامي، إذ ستحارب هذه النظم الاسلام الجهادي بعنف دموي حماية لبقائها، وبالتالي فإن نزعة الاستبداد ستنمو بقوة على حساب القيادات المتطرفة من ناحية، وعلى حساب التطور الديمقراطي في هذه الدول من ناحية اخرى!

ويضيف زينجر: ان اسقاط نظام الرئيس العراقي، ونجاح الحرب الاميركية ضد منظمات الاسلام الجهادي، سيؤدي بالضرورة إلى سيناريوهات اخرى، اهمها تأسيس نظام ديمقراطي في العراق تحت الرعاية الاميركية، ورفع التطور الديمقراطي في دول مثل مصر وسورية وايران، واجبار الدولتين الاخيرتين على طرد ومقاطعة المنظمات الارهابية «يقصد الفلسطينيين وحزب الله طبعا» وإقناع اسرائيل بقبول قيام دولة فلسطينية تلتزم أمن اسرائيل -!!- في الاساس.

ثم يختتم وثيقة معهد هدسون بالقول تحديدا: ان اميركا والغرب في حاجة ملحة إلى تحرك عملي وجدي لوقف انتشار نفوذ «الاسلام الجهادي المتطرف» في العالم العربي خصوصا، لانه اصبح العدو القادر على تهديد الامن القومي الاميركي والغربي عموما...

الآن... قد يقول البعض ان الاستشهاد بمثل هذه الوثيقة وسيناريوهاتها، فيه تجاوز لسياسات الادارة الاميركية وقفز فوقها، لأن معهد هدسون لا يمثل الادارة الحاكمة، و«زينجر» ليس مسئولا في البيت الابيض، وهذا حقيقي فعلا، لكننا استشهدنا بها لأسباب كثيرة، أهمها انها واحدة من مئات الوثائق والاجتهادات والتحليلات التي تنتجها مراكز علمية في الولايات المتحدة - حتى لو كانت منحازة ومتطرفة - وتجد طريقها إلى المسئولين في البيت الابيض والكونغرس والصحافة والإعلام، الذين يتأثرون بها سلبا أو ايجابيا.

وانها بحكم ما حملته من افكار ورؤى، تلتقي في الواقع العملي بما يدور في خلد ومخططات التيار اليميني «الصقور» الحاكم المتحكم في البيت الابيض، ما يؤثر بقوة ليس فقط على عقل ومزاج الرئيس بوش، ولكن على صوغ القرار السياسي في البيت الابيض من ناحية، وفي الكونغرس بغالبيته الجمهورية «اليمينية» من ناحية اخرى، وفي الاعلام وصوغ الوعي العام من ناحية ثالثة.

اما الاهم، فهي تكاد تكون ترجمة حقيقية للسياسة الاميركية المطبقة حاليا، والتي نراها مرأى العين، والتي تنادي باستخدام القوة العسكرية الام

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 106 - الجمعة 20 ديسمبر 2002م الموافق 15 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً