دعا السيد محمد حسين فضل الله، الغرب إلى الاعتراف بمسئوليته عن رعاية جماعات متطرفة وعن خلق رأي عام إسلامي وعربي معاد من خلال قهره للعرب والمسلمين، ودعمه المطلق لـ "إسرائيل" قبل أن يبدأ بأية حركة تصحيحية أو يدعو إلى مؤتمر دولي بشأن التصدي لهذه الجماعات. ورفض تقزيم المسألة وتجزئتها، مشيرا إلى أن البعض في الغرب يريد أن يغسل يديه من دم هذا الصديق، وأن يتحلل من مسئوليته في خلق هذا المناخ الدامي في المنطقة وصولا إلى أوروبا، مؤكدا أن الإدارة الأميركية هي المسئولة عن هذه البيئة السياسية المضطربة.
جاء ذلك في إطار رده على سؤال في ندوته الأسبوعية عن موقف الإسلام من الأصولية وكيفية التعامل مع هذا المصطلح؛ وفيما يأتي إجابته:
نشأ مصطلح الأصولية في بيئة غربية وجرى تسويقه في عالمنا الإسلامي كالكثير من المصطلحات التي يتم إنتاجها في الغرب ويصار إلى استهلاكها في الشرق، على أساس خدمة مصالح المحاور الدولية تحت عناوين لا تحمل صدقية علمية وموضوعية في إسقاط الكلمات على الواقع. ولذلك فنحن لا نوافق من حيث المبدأ على استخدام هذه المصطلحات غير الصادقة من الأساس في محاكاة الواقع الديني والسياسي في واقعنا العربي والإسلامي. مضافا إلى ذلك أننا نرتاب في خلفية مطلقيها، ولاسيما لجهة تسويقها سياسيا وأمنيا ودعائيا بما يؤدي إلى تشويه صورة الكثير من الوقائع والحوادث والإساءة إلى قضايانا الكبرى.
أصولية صافية وأخرى متحجرة
ولقد كنا ندعو دائما رجال الإعلام والسياسة والفكر إلى استخدام المصطلحات الناشئة من بيئتنا العربية والإسلامية، لا على أساس التعصب لهذه المصطلحات، بل لكونها أكثر صدقا في التعبير عن الحال السياسية والثقافية للأمة، أو عن المشكلات التي تعترضها والحوادث التي تنطلق فيها جراء خلافات سياسية أو دينية أو ما إلى ذلك. وبصرف النظر عن ذلك، فمن الممكن أن نشير إلى نوعين من الأصولية، النوع الأول ويتمثل في الأصولية الفكرية التي تتمسك بالأصول الإسلامية لتنطلق منها لمواكبة الحياة ومستجداتها فيما تمثله الأصول والنصوص الإسلامية والتجربة الإسلامية الأولى من أصالة في الفكر وصفاء في الذهن ورحابة في الانفتاح على الآخر والاستفادة من منجزاته الحضارية من دون أن تشعر بعقدة إزاء ذلك، كما شهدنا ذلك في العصر الإسلامي الأول، إذ شهدت التجربة الإسلامية تنوعا وتعددية فكرية ومذهبية وانفتاحا على الآخر في حركة التعريب والنقل والتفاعل الحضاري على المستويات كافة. ولا يمكن للباحث أو للمفكر أو المهتم وحتى الإنسان العادي إلا أن يقدر ويحترم هذا النوع من الأصولية بحسب المصطلح المتداول.
أما النوع الثاني من الأصولية فيتمثل بحال من الاختناق والتحجر والتعصب غير الواعي للماضي، وتقديس التراث والسلف من دون معرفة "صفوه من كدره ونفعه من ضرره" في عملية يخيل إليك أنها تريد لعجلة الحياة أن تعود إلى الوراء، وفي ظل قطيعة مع العصر ومنجزاته، وفي انغلاق شبه مطلق على الذات ومصادمة دائمة مع الآخر، إذ يمتد ذلك إلى العناوين الأخرى التي تقود إلى تكفيره وتضليله، ثم إلى المسوغات التي يخترعها هذا العقل المنغلق لجهة استحلال سفك دم الآخر بطريقة وحشية لا يقرها الإسلام. ونحن نتحفظ على إطلاق مصطلح الأصولية الإسلامية على بعض الحركات العنفية في الواقع الإسلامي، إذ إننا لا نجد في الأصول الإسلامية ما يقر هذه الأعمال العنفية والإجرامية التي تستبيح سفك دماء الآخر الديني أو السياسي في ظل عناوين واهية وبعيدا من ساحة الحرب والجهاد.
ونعتقد أن أفضل سبيل لمواجهة هذا النوع من العنف المدمر يتمثل في العودة إلى المنابع الإسلامية الأصيلة التي تؤكد الرحمة والرفق والحوار كعناوين أساسية في حركة العلاقات مع الآخرين، وخصوصا أننا نلحظ وجود حال من الغربة أو القطيعة بين هذه التيارات وبين الإسلام الذي تدعي الانتماء إليه، إذ تعيش حالا من الجهل والسطحية في فهم الدين ومقاصده ورحابة نصوصه ومفاهيمه، لأنها تتعامل مع النصوص بطريقة تجزيئية انتقائية والحال أن الإسلام لا يفهم إلا في شكل شامل ومتكامل، وقد قال رسول الله "ص": "لا يقوم بدين إلا من حاطه من جميع جوانبه".
كنا نقول إن الأصولية التي تعني نفي الآخر أو تعني استخدام العنف بعيدا عن المبررات الحضارية والشرعية هي مرفوضة إسلاميا، ونحن نشهد إدانة واسعة لها من الأوساط الإسلامية قبل غيرها، ولكن المشكلة تكمن في التعامي الغربي عن المسئولية في تكوين هذه الذهنيات والجماعات ورعايتها من قبل بعض المحاور الغربية وخصوصا الأميركية في شكل مباشر، قبل أن ينقلب السحر على الساحر. ولذلك، فنحن نطالب الغرب، وخصوصا إداراته الحالية، أن يعترف بهذه المسئولية الرعائية، ومن ثم بمسئوليته عن خلق رأي عام عربي وإسلامي معاد من خلال قهره للعرب والمسلمين في قضاياهم ودعمه المطلق لـ "إسرائيل"، قبل أن يبدأ بالدعوة إلى ما يسميه حركة إصلاحية أو تصحيحية، أو أن يدعو إلى مؤتمر دولي للتصدي لهذه الأفكار المتطرفة، لأن المشكلة لا تكمن فقط فيما يشير إليه هذا المسئول الغربي أو ذاك بشأن مناهج التدريس في بعض الدول الإسلامية، بل في البيئة السياسية المضطربة التي تتحمل أميركا الإدارة المسئولية الأولى عنها، وكذلك من ساعدها ووقف معها على حساب الشعب الفلسطيني والعراقي وشعوب المنطقة.
إننا نرفض تقزيم المسألة وتجزئتها بالادعاء أن المشكلة تكمن في هذا الصراع داخل الواقع الإسلامي، وفي الفهم الخاطئ لدى البعض للنصوص الإسلامية، وكأن البعض في الغرب يريد أن يغسل يديه من دم هذا الصديق، وأن يتحلل من مسئوليته في خلق هذا المناخ الدامي في المنطقة لتصل شرارته إلى أوروبا. ولذلك فنحن في الوقت الذي ندين هذه الأعمال الإجرامية التي تطول المسلمين كما بدأت تطول الأوروبيين كما جرى في بريطانيا، نرحب ببعض الأصوات التي بدأت تنطق بالحقيقة بصراحة تامة، كما برز في موقف رئيس بلدية لندن الذي قال: إن بريطانيا كانت ستفرخ عددا كبيرا من الانتحاريين لو كان البريطانيون تحت الاحتلال الأجنبي وحرموا من حقهم في الانتخاب وفي إدارة شئونهم، وغالبا من حقهم في العمل منذ ثلاثة أجيال مشيرا إلى معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي.
إننا نرحب بهذا المنطق ونؤكد أن تصحيح الخلل يبدأ من هنا، ونريد لشعوبنا أن تعود إلى أصالتها في دينها لتعيش الرحمة مع الآخر كائنا من كان، لأن المسألة تكمن في أننا دخلنا في مرحلة التحدي في أن نكون أو لا نكون على مستوى الوجود أمام وحش الاحتلال الأميركي والإسرائيلي الذي يريد أن يسلبنا آخر ما عندنا، كما دخلنا في التحدي الحقيقي في أن نكون نحن لنحفظ إسلامنا من التشويه والمصادرة من أولئك الذين أساؤوا إليه في طريقة الفهم ومن الذين يعملون لاستئصاله والقضاء عليه
العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ