على مسافة لا تزيد عن خمسة وخمسين مترا من نافذة المكتب البيضاوي للبيت الأبيض، إذ يدير الرئيس جورج بوش مهمات وظيفته "انظروا كم هو الإنسان ملتصق بمكان اتخاذ القرارات المهمة في أميركا" جلس شاب اختلطت الدماء في وجهه القرفصاء على الأرض واعتلت رأسه قبعة تشابه تلك التي يلبسها رعاة البقر، وغطى جسده كله قماش الدنيم الأزرق الممزق في عدة مواقع، وانتعل "زنوبة" في قدميه وهو يدخن سيجارة تتعالى أدخنتها، وأدار قرص جهاز "سي دي" يحمله ليبث أغنية تقول كلماتها: "خذني معاك ياللي انت مهاجم خذني معاك. أنا قلبي شاعل نار، خذني معاك، خذني معاك". والأغنية مقتبسة من أغنية عربية تقول مفرداتها: "خذني معاك ياللي انت مسافر خذني معاك". ويبدو من الوهلة الأولى أن الرجل يناصر مهاجمي أميركا وغيرها من الدول التي تسول لها نفسها إهانة شعوبها والدوس على كرامتهم لقاء أوهام ليس إلا، غير أن الأمر ليس كذلك.
ليس هناك ما يفيد أن البيت الأبيض أو الرئيس أو "جهاز المخابرات" الخاص بـ "البيت" أو "الدولة"، انتبها لما بثه الجهاز أو لماذا جلس هذا المواطن الأميركي القرفصاء هنا لفترة تزيد على ثماني ساعات. المنتبهون دائما هم من خارج السلطة، كما أظهرت "واترغيت" وغيرها من غيتات على مر التاريخ. بعد تلك الساعات الطوال حمل الرجل حاله وفل، لا حس ولا خبر.
المتفحص لـ "الحال الأميركية" بعد أن أصابتها هجمات سبتمبر/ أيلول "في مقتل"، يرى أن الأميركان بدأت تسكن أفكارهم حال من الخوف يسميها علماء النفس "برنويا"، من السفر داخل وطنهم أو خارجه، فالإحصاءات تشير إلى انخفاض حاد في عدد المسافرين في كل الاتجاهات، وإن بدا هناك بعض زيادة ملحوظة في أعداد السياح الأميركان وخصوصا لبعض ولايات أميركا الجنوبية من غربية أو شرقية، فكثير منهم يذهب اليوم إلى فلوريدا لا ليشاهد روائع ديزني لاند وينعم بدفء الشمس ويشرب كأس عصير من البرتقال الطبيعي الطازج، بل يذهب ليطلع عن قرب على "فضائح" الانتخابات الأميركية، إذ يعتبر زيارته زيارة تاريخية لمكان "البطاقات المثقوبة" التي لا تشاهد ثقوبها الصحيحة بالعين المجردة، بل بالعدسات المكبرة. وهم لا يذهبون إلى كاليفورنيا ليتمتعوا بما تجود به استوديوهات هوليوود، وبحرها وشمسها، بل ليروا تراشق الأميركان بالطماطم الأحمر الطازج ورميه في البحر "وهي بضاعة زراعية تزيد مدخولاتها على مدخولات النفط العربي مجتمعة" حتى لا تهبط أسعاره.
هذه البرنويا ستلحق ضررا لا بأس به بالجموع التي تنتظر تأشيرة دخول إليها. فتفجيرات لندن الأخيرة أضاعت مفاتيح الأدراج التي فيها أختام التأشيرات في مجمل سفارات الولايات المتحدة، وهي لا تفتح إلا في الحالات الطارئة من خلال المفاتيح التي في حوزة السفير. هناك غيرها من أمور يرصدها المتابعون لما يجري على الساحة الأميركية منها أن هذه الأغنية ومثيلاتها جاءت نتيجة هذا الخوف غير المبرر في أميركا.
آخرون يرون أن "خذني معاك إن كنت مهاجم" هي في الحقيقة أغنية تسخر من المهاجمين الذين بدأوا يبرزون على وجه البسيطة بسبب أو من دون سبب. فمن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق هناك مهاجمون على مستويات مختلفة فمنهم من يهاجم من خلال أجهزة شرعية ومنهم من يهاجم من تحت سقف البرلمان أو مؤسسة أهلية ومنهم يهاجم وهو في جحر مثل جحر الفئران، ومع كل هؤلاء المهاجمين هناك المهجوم عليهم الذين يتعرضون لكثير من المخاطر، وأشدها عنفا تلك التي تفجر أماكن يأوي إليها أناس لا شأن لهم بالقضية المثارة أساسا.
صديقنا الكاتب الكبير في "نيويورك تايمز" نيكولس كريستوف يهاجم كثيرا السياسة الأميركية، ولا يأبه مما قد يصيبه من الإدارة أو غير الإدارة؛ غير أنه حين يرى من الجميل ما تصنعه الإدارة هناك لا يبخل بمباركته لمثل هذا الجميل الذي يخدم الإنسانية جمعاء قبل أميركا. فقد هجم كريستوف أخيرا هجمة شرسة على الرئيس بوش بصريح العبارة: "السيد بوش إبق بعيدا" أو "السيد بوش إبق خارجا" تعددت الترجمات والمعنى واحد "سيد بوش شيل إيدك كل الشعب ما يريدك"! فهو يقول للرئيس بصريح العبارة: سيادة الرئيس إنك لم تفعل شيئا لأميركا، فمنذ عرفناك حتى اليوم أنت مشغول ومنشغل بالعالم خارج أميركا... فهنا العالم يريد أن يناقش قضية "الموت الرحيم" والبطالة والتعليم ومستقبل الأطفال والشباب والنساء.
كريستوف لا ينفي ولا ينكر أن بوش عمل كثيرا من أجل الصالح العام لدول وفقراء إفريقيا، ولصالح قضايا إنسانية أخرى، غير أن "الحقيقة المؤلمة" أنه لم يفعل شيئا للأميركان، ولم يجنبهم الضربات المؤلمة مرارا وتكرارا، فقد "ضربنا الطالبان والقاعدة في عقر دارنا، والعراقيون والزرقاوي وجماعته في العراق".
سلمان رشدي يتحدث عن المرأة
هجوم آخر نشرته "نيويورك تايمز" في العاشر من يوليو/ تموز الجاري للكاتب سليمان رشدي بعنوان "قوانين العار في الهند وباكستان" يشن فيه هجوما على قوانين البلدين الخاصة بالشرف والعار، إذ يبدأ بالقول: "في ثقافة الشرف والعار على مثل تلك التي في الهند وباكستان تشرف المرأة المستقيمة جنسيا الرجال التي تستقيم جنسيا وتخزي وتجلب العار كل الرجال إذا لم تستقم جنسيا" ويقول عنهما إنهما دولتان متأخرتان جدا عن الركب الحضاري للأمم الحية، فيورد قصة مفادها أن المحكمة الباكستانية وبشكل مخز ومعيب "حكمت ببراءة" خمسة من رجال قبيلة متسوي الباكستانية القوية في قضية اغتصاب قروية قبل ثلاث سنوات. وإن ذلك الاغتصاب كان بالنسبة إلى المغتصبين "اغتصاب شرف" هدف إلى معاقبة قريب للمغتصبة كونه شوهد مع امرأة من قبيلة متسوي. حكم البراءة استؤنف ضده وهو الآن في المحكمة العليا لباكستان، إذ يبدو أن العدالة ستأخذ مجراها وتكسب المرأة القضية وتحصل على نوع من التعويض نتيجة للانتهاك. ويقول "إن باكستان لديها أقل القليل مما يمكن أن تفتخر به في هذا الشأن... فلجنة حقوق الإنسان الباكستانية تذكر في تقاريرها أن هناك 670 حادث اغتصاب بعضها اغتصاب عصابات والآخر اغتصاب أفراد، والحالات التي لم تسجل هي أكبر من ذلك بكثير، والاغتصابات الناتجة عن ثأر عشائري في تزايد مستمر، وأصبح من المعتاد أن تقوم المرأة المغتصبة بقتل نفسها ودفن العار معها إلى الأبد".
كما يذكر قضية الطبيبة شزية خالد التي اغتصبت في إقليم بلوشستان من قبل رجال الأمن الذين يعملون في المستشفى الذي تعمل به، وأخفقت المحكمة في إدانة أي منهم بالجريمة. ويذكر رشدي أن حكومة برويز مشرف التي تحالفت مع الغرب في مكافحة الإرهاب، سحبت جواز سفر الآنسة المغتصبة خوفا من أن تتحدث في الخارج عن قضيتها وتجلب لباكستان العار، ولكنها تبدو على أتم الاستعداد للسماح بحرب الإرهاب الجنسي التي ستشن ضد مواطناتها.
ثم يعرج رشدي على الهند، فيقول إن الأخبار الآتية من هناك هي أسوأ من أخبار باكستان، ففي حال ما يسمى "حالة عمرانه" تم اغتصاب امرأة مسلمة من قبل عمها "والد زوجها" الذي ولد قرارا من دار العلوم الكلية الإسلامي يطلب منها ترك زوجها نتيجة الاغتصاب، إذ أصبحت حراما عليه. ثم يعرج على الإسلام فيقول إن "نظام قانون الأحوال الشخصية الإسلامي هو السبب في ترك أمر عمرانة تحت رحمة الملالي"، ويدعي أن ليس في القانون الإسلامي شيء يسمى نفقة، ولا أدري من أين أتى "رشدي" بهذا الأمر؟!
ويضيف أن "حكومة الهند مررت قانونا يمنع المرأة المسلمة المطلقة من الحصول على نفقة من زوجها تحت ضغط الإسلاميين"، ويضيف "أن ليس هناك من المتنورين المسلمين من تجرأ على رفض هذا القانون خوفا من قوة النبلاء الإسلاميين". ويختتم رشدي مقالته بالقول إن "باكستان خطت خطوة صغيرة على طريق إصلاح قوانينها الخاصة بالاغتصاب؛ غير أن الهند التي تدعي العلمانية ومن الواجب أن تكون قوانينها المدنية تشمل كل المواطنين فطريقها طويل وصعب. ونفهم من حديث رشدي أن هذه المجتمعات "الهندية والباكستانية" مجتمعات ذكورية فيها تغتصب المرأة ويبرأ مغتصبوها ويخلى سبيلهم. غير أن هذا الاتهام باطل من أساسه، فالاغتصاب ليس حكرا على دول العالم الثالث، بل هناك حالات اغتصاب في دول أكثر تحضرا وتعلما من هذا الشرق يقشعر لها البدن، وليت الأمر يقف عند حد الاغتصاب بل يتعدى ذلك إلى نحر الضحية ورميها إما في البحر أو الغاب.
رشدي يهاجم البحرين
إن هجوم رجل يدعي التحضر والعلم على مجتمعات ذات قوانين متأصلة في الروح قبل العقل والكتب، لا يمكن لأي قانون مهما أوتي من قوة أن يغيرها بين ليلة وضحاها أو أن يحمي ضحاياها ويعيش في الغرب ولا يمتثل بقوانين الغرب ولا يضع في اعتباره حين كتب "آياته الشيطانية" شعور مليارات من المسلمين حين أخطأ على نبيهم، وعلى نساء نبيهم، ولم يقف عند هذا الحد بل وصم شعوبا كثيرة بالتخلف منها هذه الجزر الصغيرة البحرين التي لم تطأ قدمه أرضها ولم يقرأ تاريخها في صفحات كتابه. نريد حقا أن نعرف كيف يحق لرجل يدعي المعرفة والثقافة أن يطالب حكومات تحتضن الملايين من البشر مثل الهند وباكستان أن تعرف ما يدور في رأس الإنسان البسيط العادي الذي تربى على مقولات ومفاهيم جد خاطئة عن الجنس والعرق والفكر هي أبعد ما تكون عن روح الدين وجوهره قبل أن تقع الضحية فريسة للحظة الجنون تلك. هذه المفاهيم الخاطئة تارة في الواقع ما تأتي من صلب أفكار القائمين على الديانة لسوء فهمهم للنص تارة أو لكونها عادة اجتماعية من الصعب وأدها في التراب. هذه الحماقات البشرية موجودة في كل المجتمعات ولم تستطع كل القوانين أن توقفها أو تحد منها.
سلمان رشدي حين يهاجم هذه الدول يهاجمها بطريقة استعلائية ليظهر هو بمظهر رجل حضاري لبعض الأفراد المغيبة أفكارهم في الغرب الحضاري الذي لا يرضى عقلاؤه ومفكروه، ولا أستثني حتى أناسه البسطاء أبدا أن يشتم أو يساء إلى إنسان مهما كان مستواه الاجتماعي ناهيك عن أن يكون المساء إليه نبي من أنبياء الله.
نعم نتفق مع رشدي على أن المرأة في مجتمعات كثيرة يساء إليها وحقوقها مهضومة كثيرا، غير أن الطريق لإصلاح هذا الإعوجاج في التفكير ليس فقط من مسئولية الحكومات بل أولا وقبل كل شيء هي مسئولية الآباء والأمهات الذين ينجبون الذكور والإناث بالطريقة نفسها، غير أنهم منذ اللحظة التي يتنفس فيها المولود تبدأ معها لحظة التفرقة، فللولد الأزرق وللبنت الوردي وعلى هذا المنوال تجري دروب التربية في خطين متعاكسين وفلسفة مختلفة في تربيتهما.
في البدء كي تنتفي هذه الظاهرة ليس من الهند وباكستان فحسب بل من الدول كافة العربية والشرقية والغربية يتوجب مساواة الذكر والأنثى في المنزل والبدء في معاملتهما على حد سواء، وتربيتهما على القيم الإنسانية ذاتها، مع تبيان الاختلافات العضوية ومحدوديتها. ليس في الهند وباكستان فقط بل حتى في أكثر بلاد العالم تفتحا لاتزال هناك عقول تؤمن بسيطرة الذكور على الإناث، ومن بين أكثر الرجال ثقافة وعلما ومن بين النساء أيضا.
معصومة المبارك
في وقت مضى من الشهر الماضي اتصلت هاتفيا بالصديقة معصومة المبارك، الأنثى التي دخلت بجدارة مجلسا احتكره الرجال لزمن طويل في الكويت لا لأبارك لها اختيارها لمنصب وزير في دولة الكويت، بل حقيقة لأشد على يدها وأمدها بقليل من الدعم لتقف ضد تلك الجماعة المأزومة الوقفة ضد تعيينها "كامرأة" مؤهلة وتملك خبرة في الشأن السياسي في الوزارة الكويتية. لقد هجمت الجماعات التي تقول إنها "إسلامية" هجمة شرسة على الوزيرة الجديدة مطالبة الحكومة بإبعادها وإخراجها من التشكيلة بحجج كثيرة واهية. الهجوم لايزال قائما حتى بعد أن حصلت المرأة الكويتية بعد جهد جهيد وتلقت كثيرات منهن ضربات موجعة مؤلمة بالنعال تارة وتارة بأشياء أخرى من أناس موهومين بأنهم رجال ولهم سلطة عليهن منحها لهم البارئ عز وجل، وهذه هي الطامة الكبرى. والهجوم الشرس ضد المرأة لن ينتهي هنا في الخليج أيضا والعالم العربي إلا إذا بدأنا من المنزل، واعترفنا أمام جميع أبنائنا بأنهم سواء في كل شيء.
الهجمات الشرسة التي تشنها جماعات "الزرقاوي" ضد الأبرياء في العراق، والتي قد تتشعب وتضرب أجزاء أخرى من الوطن العربي، وتحصد أرواحا كثيرة من الأبرياء العرب وغيرهم إذا لم تقف كل العقول قبل العضلات في وجهها ومحاولة صدها. القضية شائكة جدا. مواطنون عرب "مسلمون" هكذا يعلنون عن أنفسهم يشدون قنابل في أوساطهم ويأتون ليعيشوا في أوساطنا، ثم هم ومن دون سابق إنذار ينفجرون ويحصل الدمار وتذهب أرواح الأبرياء سدى. الجزائر والسعودية حصلت على نصيب الأسد من هذه العمليات، الكويت تلقت بعض الضربات، والعراق يعيش الآن حالا مرعبة لا يمكن لأي راصد أن يرصد حقيقة ما يجري هناك أو أن يعلن تاريخا تنتهي فيه هذه العمليات الدامية: سفراء، مواطنون، عجائز تموت في الأسواق، أطفال يبادون في وسط المدارس، رجال تتناثر أشلاؤهم في الأسواق والمحطات.
قد يقول قائل إن الشريط الذي صدح قرب البيت الأبيض يوحي بأن الأميركان مستعدون أيضا للموت في حال الهجوم على بلادهم من أية بقعة من بقع العالم. فالطائرات الحربية مستعدة لتقصف أي مكان. والطائرات المدنية قد تحمل ربما قنابل سرا، قد تكون نووية مدمرة وتضرب في عمق أية بقعة يتستر فيها المهاجمون. إذا لم ننتبه لما يجري في العالم ومحاولة فهم القضية الحقيقية التي تجعل من رجل بسيط قنبلة متنقلة في أجواء العالم لا يعرف متى أو أين ستنفجر ومن من الناس سيقتل وكم عدد قتلاهم.
الغرب الأوروبي هو الآخر ليس بعيدا جدا عن مثل هذه المشاهد، فقد أعطتنا تفجيرات لندن الإشارة الأولى لما سيأتي من بحر من الدماء وأدخنة من حرائق قد تعجز كل أجهزتها المتطورة عن إخماد نارها.
دعونا نحن أمة النور وأمة الأخلاق والإبداع، الأمة التي علمت الغرب والشرق فيما مضى، الأمة التي أنجبت الأنبياء والرسل والفلاسفة والعلماء أن ندعو إلى حفظ كرامة الإنسان لنقول خذني معاك ياللي إنت مسالم خذني معاك، خذني معاك
العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ