"إن مأخذ البلدان المتخلفة على البلدان الأخرى في المحافل الدولية ليس سعيها لتغريبها، بل عدم إعطائها بالسرعة الكافية الوسائل التي تمكنها من التغرب".

كلود ليفي شتراوس

ليس الانضمام للغرب قائما على القبول العفوي، أي أنه ليس قرارا حرا. فلا يمكنك مثلا أن تقول "ما لنا والغرب، فلنبق في ديارنا آمنين"، إننا نصطدم بالصخر، وهذا التفاوت الصخري في معيار القوة يفرض استلاب الإرادات الجامحة في التحصن الشعوبي أو الثقافي. في خضم هذا الضعف، هي تتقارب "مجبرة" لا بدافع المشاركة في النتاج الثقافي الأنسني.

"كورت نيميا نراجو" أحد علماء السلالات من قبائل البرازيل، كان أفراد قبيلته ينتحبون شفقة عليه، كلما عاد من زيارة لأرض أخرى، كانوا يفكرون في أنه كان يقاسي الكثير بعيدا من المكان الوحيد - أي قريتهم - الذي يستحق أن يعيش المرء فيه. بمعنى أنهم وإن كانوا لا يمانعون في ذهابه إلى أرض أخرى "ثقافة أخرى"، فإنهم يحسون بمدى الوجع الذي يلفه جراء هذا التغرب.

راكب القطار، يرى المسارات بالنسبة له في وجهتين، إما مسار "متحرك" يمثل القطار الذي يسير في الاتجاه نفسه، أما القطار الذي يسير في الجهة الأخرى فهو مسار الرجوع للوراء "التموضع الخاطئ"، بمعنى الجمود ولو كان القطار يسير بسرعة أكبر وبكفاءة نادرة. كذلك المثقف يرى الثقافات جامدة أو متحركة، ثقافة البيئة التي تتوافق معه هي مثال الثقافة الموجبة المتحركة، وثقافات البيئة الأخرى هي مثال السلبية والجمود.

لذلك أطلق اليونان لفظ "البرابرة" لمن هم خارج بيئتهم، وأطلق الغرب لفظ "التوحش" كوصف للآخر من الأعراق الملونة. حين نصف الآخر بالبربري فإننا نحتاج إلى أن نكون برابرة، وحين نصفهم بالتوحش، فنحن لا نغادر حقيقة أننا في قمة التوحش. الاسبان كانوا يعتقدون ان سكان أميركا الجنوبية "متوحشون"، لذلك كانوا يقتلونهم ويرمونهم في البحر، اعتقدوا أنهم بالمراقبة المستمرة للجثث سيتأكدون من أن أجسام الأميركيين قابلة للتحلل أم لا؟!

هذه الصورة الشنيعة والمقززة، دلالة على أن الثقافات في البيئات المختلفة صراع معقد، لا يتعلق فقط بمستوى التطور المعرفي والتقني، بل هي منظومة أكثر تعقيدا، وأن التماحك فيما بينها لا يكبح، قد تتغير ماهية هذا التماحك والتثاقف والتمازج والتموضع، إلا أن الادعاء بالخصوصية التاريخية المستمرة المغلقة لا مبرر له، أو انه حديث عن المستحيلات، أو ضرب من الجنون؟