لم يعد للخطاب القومي أي تأثير على الشارع العربي، وخصوصا في ظل المتغيرات التي تشهدها الساحة العربية، فقد حررت العراق نفسها من المناخ العربي بعد انتخاب جلال طالباني - وهو كردي - رئيسا جديدا للعراق، وانتهت الوصايةالعربية من لبنان بخروج الجيش السوري، وبدأ العد تنازليا في السودان نحو سودان جديد، فيدرالي وديمقراطي بقوميات متعددة، وفي المقابل عجزت الأنظمة العربية عن تفعيل دور الجامعة العربية في حل الأزمات ومواجهة التحديات، فهل ستلفظ القومية العربية أنفاسها الأخيرة؟ وهل ستؤول الى ما آلت إليه الاشتراكية إلى مزبلة التاريخ؟ وبالأحرى هل يوجد من بيننا من ينادي بالقومية العربية في ظل تنامي القطرية المعززة بالديمقراطية؟ عاش العرب في حال من الشتات في أرض الجزيرة وبوادي الشام، إلى ان ظهرت الدعوة الإسلامية. واختيرت الأرض العربية لتكون مهدا لهذه الدعوة ومركزا إشعاعيا لها، فوحدت الأرض العربية، وعلى أكتاف عربية حمل هذا الدين إلى أرجاء المعمورة. إلا أن الدين الإسلامي لم يكن محصورا في العرب، ولا يعني احتكاره للعرب في بادئ الأمر نظرا إلى ظروف النشأة ان تكون إدارة الدولة عربية صرفة، وهذا ما أكده الرسول "ص" في مناسبات مشهودة. لكن وصول الحكم إلى بني أمية عزز من المفهوم القومي، فلذلك أطلق عليه مسمى الدولة العربية، اذ انتهج الحكم خطى الارستقراطية العربية، وحولت الدولة التي بناها الرسول "ص" ذات النظام الأممي الى النظام الملكي، وليس أدل من ذلك على قول أول خلفائها "أنا أول الملوك"، ومن ذلك الوقت نشأت الدولة العربية متلبسة بالدين الإسلامي فسرى نوع من الإعجاب في نفوس العرب بأنهم خير من يحكم الأمة باعتبارهم المؤسسين الأوائل لكيانها، وبهذا لم يستكن العرب لسيطرة الفرس والأتراك على زمام الأمة طيلة فترة التاريخ الإسلامي. ومع سيطرة العثمانيين على الأرض العربية تعزز الشعور القومي وظهر على الساحة آنذاك منظرون لها سواء من العلمانيين أو من الإسلاميين من أمثال رفاعة الطهطاوي اذ برز ذلك واضحا في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وجورج زيدان، وفرح انطون، وأحمد فارس الشدياق، وناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، وعبدالرحمن الكواكبي الذي يعد أكثر شهرة في هذا المجال اذ خلط البعد القومي بالتوجه الإسلامي. فقد أشار في كتابه "أم القرى" والمنشور في العام 1900م إلى لزوم ان يكون الخليفة عربيا قرشيا ويكون مقر حكومته مكة المكرمة، لأن الحق في نظره ان يكون الحكم للعرب لإيمانه العميق بالمقدرة العربية على الإصلاح، ويقينه بسمو الذات العربية وتأصلها في الدفاع عن الحقوق العربية، اذ يقول "العرب أعرق الأمم في أصول الشورى في الشئون العمومية، والعرب أهدى الأمم في الأصول المعيشية الاشتراكية، والعرب من أحرص الأمم على احترام العهود عزة، واحترام الذمة إنسانية" وتحول هذا الاتجاه الفردي إلى الاتجاه الجماعي في مطلع القرن العشرين عن طريق قيام جمعيات عربية قومية، من أبرزها الجمعية القحطانية وجمعية العربية الفتاة. ومع قدوم جيوش الاستعمار إلى الوطن العربي، عملت الحكومات المستعمرة على توزيعه إلى أقطار، ولم تلغ روح الثورة ضد المستعمر الغربي الشعور القومي لدى العرب، بل على العكس فقد عززته، اذ اشتركوا جميعا في الهم نفسه، ولعل ذلك ما يبرر نجاح الانقلابات العسكرية ذات النهج القومي في الوطن العربي بعد الاستقلال، وانتشار الأحزاب القومية على طول الوطن العربي، بل وضعت ثلاث نجمات على أعلام بعض الدول احتفاء بالقومية والوحدة العربية.
بيد أن الشعور القومي أخذ مدا طويلا إبان الصراع العربي - الإسرائيلي الذي استغله الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر حين صاغ شعار "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، وأصبح الناصر بطلا قوميا على رغم انه لم يحقق انتصارا فعليا سياسيا على "إسرائيل"، لكن نجاحه في الوصول الى السلطة، شجع الضباط العرب على ذلك، فانتشرت حمى الانقلابات العسكرية في خمسينات وستينات القرن الماضي في الوطن العربي بدءا من سورية، اليمن، العراق، الجزائر وانتهاء بليبيا بناء على الأيديولوجية القومية التي سرعان ما انتهت في مصر بعد زيارة الرئيس السادات "إسرائيل" وإلقائه خطاب السلام تحت قبة الكنيست الإسرائيلي، ما أدى إلى تفكك الوطن العربي وتمحوره على نفسه، وبالتالي زادت حدة المواجهات الإقليمية وخصوصا مشكلات الحدود وغيرها من المشكلات التي طغت على التيار القومي. ولم تكن وحدة اليمن الجنوبي واليمن الشمالي التي قامت سنة 1990م، مؤشرا لتنامي القومية بل هي بمثابة وحدة حقيقية لقطر كان مشطورا، إذ ان ظروف البلدين كانت متماثلة، وجاءت الوحدة نتيجة ملحة لإرادة شعبية. أما ليبيا فقد تخلت رسميا عن بعدها القومي وتوجهت نحو القارة الإفريقية في خطابها الرسمي، ونحو الغرب الأوروبي وأميركا في توجهها الفعلي، اما العراق الذي تبنى البعث القومي، وتبوأ مناصروه أدوات السلطة، فقد عبس لهم الزمن بتولي صدام حسين سدة الحكم اذ حول الفكر القومي البعثي إلى أداة لضرب مناوئيه، ثم انقلب الى أيديولوجيات مغايرة، بدأت تظهر في خطابات صدام الأخيرة منذ العام 1992م وصارت واضحة بقوة في العام 1997م وما تلاه، اذ كانت تفيض بالمصطلحات الإسلامية والعبارات الإيمانية، التي جعلته يضيف عبارة "الله أكبر" على العلم العراقي، إلا ان هذا الفكر قبر في العراق مع سقوط النظام في ابريل / نيسان 2003م. ولم تبق الا سورية في الميدان فما عساها فاعلة؟ وخصوصا بعد الضغوط الاميركية، من أجل تنفيذ القرار ،1559 القاضي بإخراجها من لبنان، ويبدو أن المطلب الأميركي لقي قبولا حسنا في الشارع اللبناني بعد مقتل الحريري، وبدأ الأميركيون على حد قول أحد الكتاب العرب "يفركون أيديهم فرحا وهم يرون التظاهرات تجتاح شوارع بيروت مناهضة للوجود السوري". لم تقف المطالب الأميركية عند هذا الحد، فهي تحمل ملفات متعددة على سورية، وعلى الأخيرة ان تستجيب لأهم المطالب والمتمثلة في وقف أنشطة المنظمات الفلسطينية على أراضيها، ووقف دعمها لحزب الله، وتعاونها الكامل في الحرب ضد الإرهاب، وضرورة تسليم القيادات العراقية الموالية لنظام صدام حسين، التي تزعم الإدارة الأميركية وجودها على الأراضي السورية، بناء على تصريح نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشئون الشرق الأوسط السفير ديفيد ساترفيلد، في معرض تعليقه على القرار ،1559 إذ قال: "إن على سورية أن تتحرك في شكل إيجابي تجاه القضايا التي تهمنا، وهي محاربة الإرهاب، والعراق، ولبنان، وسنرحب بالخطوة الإيجابية، ولكن إذا لم يتم ذلك فستكون هناك عواقب سلبية إضافية".
لم يكن ثمة أدنى شك لدى قطاع كبير من الشباب العربي آنذاك في ان حملة المشروع القومي العربي تمثل طموح النخبة من أبناء الأمة العربية، لكنهم مضوا إلى اختزال الأمة العربية في فكر الحزب الواحد، الحزبية في الواقع بديلا عن القبلية، أليست القبيلة والعشيرة حزبا من الأحزاب التي كانت تجمع أفرادها لما يسمى بالفزعة؟، فهم كذلك، ولكن بصورة أكثر رقيا، اذ إنهم أصبحوا يدا طوعى، وأداة من أدوات السلطة، إذ تبوأت مناصب عسكرية في بلدين عربيين مهمين هما سورية والعراق، وحكموا الناس بالقوة والنار، وأصبحوا هم السادة وهم أصحاب الحق في الوقت ذاته، كما ان القومية العربية بصورتها الفعلية لم تنتقل من حال الإيديولوجية إلى حال المشروع، ظلت كما هي لم تبارح أدراجها، متلبسة بنظريات قائمة على الوحدة العربية من خلال رؤى براقة وغير واقعية، مثل: العلم الواحد، العاصمة الواحدة، المظلة العربية، ما جعل خطابها ذا طابع أزلي وقدسي، وخلفت وراءها ثغرات داخلية حقيقية وخصوصا فيما يتعلق بالحريات المدنية، وحقوق الإنسان، وتمييز المنضمين تحت لواء الحزب على غيرهم في المناصب والمكافآت والاستحقاقات الوطنية"، ما جعل العلاقة حتمية بين القومية العربية والاستبداد، وإن مراجعة عميقة لتجربة العمل القومي يبرز ذلك بوضوح. كما انشغل منظرو الحزب في بلورة العلاقة بين العروبة والإسلام على انها علاقة تكاملية وفق ما يشير إليها ميشيل عفلق "علاقة العروبة بالإسلام ليست كعلاقة أي دين بأية قومية، وان العروبة جسد روحه الإسلام"، وهي محاولة تلفيقية بائسة لإلباس الإسلام عباءة العروبة. كما أن العمل القومي العربي، ركز على الأبعاد السياسية والنضالية على حساب الاهتمام بقضايا التربية والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والتنمية والاقتصاد، فأصبحت الشعارات والرؤى القومية خبزا يوميا تلوكه الشعوب العربية الحالمة بمستقبل التحرير والوحدة، لكنها استفاقت على المشروع الأميركي: "الشرق الأوسط الجديد" ولم يكن هناك مفر من المواجهة مع منظري القومية العربية الذين اتخذوا مبدأ المؤامرة ستارا للفشل الذريع الذي ارتكبوه بحق الشعوب العربية، ليتساءل الجميع: ما هو الحل؟ فالأمة العربية عاجزة عن إدراك ومعالجة قضاياها بمنأى عن التدخلات الخارجية وفق رؤى عالم الكبار أو "الـ G8" الذي بدأ يصادر تدريجيا القرارات الوطنية للشعوب، ومع ذلك فقدت الآليات القومية قدرتها على علاج ما يمكن علاجه، وكأنها في ساعات الاحتضار الأخير، وتعالت أصوات النشاز معلنة أنه لا حل إلا الحل الأميركي وحده؟ وهل ثمة بديل آخر؟ فالإدارة الأميركية تضغط من الأعلى ممثلة في السلطة السياسية ومن الأسفل ممثلة في الجماهير الواسعة والراغبة في إصلاحات عربية غير مسبوقة تستجيب لتطلعاتهم وطموحاتهم في تحسين مستواهم المعيشي. فلا بد من الإصلاح، اذ ان لكل أمة لحظتها التاريخية، التي تصل فيها الحوادث المجتمعية إلى مرحلة من الإشباع التاريخي، يتعذر معها الاستمرار في أدائها السابق وفق السياقات العامة للنظم والأنساق الفكرية، فالتغير والإصلاح أمران حتميان وطبيعيان لمجرى الحياة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال قصر الإصلاح على جانب دون الآخر، فهو نصف الحقيقة، اذ برامج الإصلاح العربي، على ما اعتراها من سلبيات، يفترض بها أن تحقق نجاحات مأمولة ولاسيما في مجالات السيطرة على معدلات التضخم ورفع معدلات النمو ومكافحة البطالة، وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وحتى تكتمل الحقيقة يفترض رفد الإصلاحات الاقتصادية بإصلاحات سياسية غير مسبوقة، نحن حقا بحاجة إلى إصلاح يعيد ترتيب أولوياتنا وفق تحديات العصر من خلال:
بناء دولة المؤسسات بتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني، وترسيخ سيادة القانون لدى الحكومات العربية.
الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
الإقرار بالعمل الحزبي السياسي وتنظيمه وفقا للحرية، وسيادة القانون.
تمكين الصحافة وحفزها لأداء دورها في رصد ومراقبة مواطن الخلل.
احترام حقوق الإنسان، وتوفير مناخ للحريات غير مسيء للأديان والعرف الاجتماعي.
الإصلاح الاقتصادي القائم على الدراسات والخطى المستقبلية البناءة.
تعزيز دور الرقابة على أداء مؤسسات الدولة في الوطن العربي لاجتثاث الفساد من جذوره
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1052 - السبت 23 يوليو 2005م الموافق 16 جمادى الآخرة 1426هـ