حدد الشيخ عيسى أحمد قاسم موقف العلماء في جملة من القضايا السياسية والاجتماعية التي طرأت على الساحة البحرينية خلال الأسبوعين الماضيين. ولخص قاسم موقف العلماء في محورين هما: ثوابت سياسية وتصورات ومواقف، وهنا نص الشق السياسي من الخطبة:
ثوابت سياسية
1- لا نستطيع أن نتخلى عن قيمنا والأحكام الشرعية في الحركة والسكون في موقفنا السياسي كغيره تمثل ذلك في معارضة أو موافقة، فإن هذا التخلي سنخسر معه وجودنا وحياتنا الحقيقيين.
2- نحترم الدماء والأعراض والأموال وحقوق مختلف الطوائف والفئات على حد احترام الدين لها.
3- نتمسك وإلى الأخير بالمطالبة بالحقوق الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وسائر الحقوق لأبناء الشعب كل الشعب. وإذا تحدثنا عن فئة أو منطقة أو طبقة قبل أخرى فإنما ذلك بلحاظ مسيس الحاجة الفعلية التي قد تعاني منها هذه الطبقة أو الفئة. فنحن لا نقر ظلم أية فئة ولا نسكت عن حق أية طبقة.
4- نقدم التعاون مع الآخرين في خير الدنيا والوطن والأمة على الاختلاف والمنازعة.
5- في ظروف الاختلاف، وفي المطالبة بالحقوق نتمسك بالحوار، ثم بالوسائل السلمية الأخرى، ونرفض أساليب العنف والتخريب.
6- تتحرك أساليبنا السلمية في إطار الدين مع الالتفات إلى مقررات الميثاق والدستور مع الإنكار على كل قانون في نقاط جوره. وتشكل الموقف السياسي عناصر متعددة وتتدخل فيه حسابات كثيرة قد تبرر بمجموعها بعد استبعاد العنف أن نقبل الكلفة الثقيلة التي تحتم الضرورة تحملها، وقد لا تستوجب المقتضيات قبول كلفة أقل في فرض آخر.
المنظور ليس ما نتحمله من كلفة، قد أقبل أن أموت في سبيل هدف، وقد لا أقبل أن تبتر مني إصبع واحد في سبيل هدف آخر.
ونحن ندور مدار التكليف الشرعي بغض النظر عن الكلفة خفت أو ثقلت، مع عدم اللجوء إلى العنف وإنما نحن نتحدث عن كلفة يفرضها الطرف الآخر.
7- ننادي بانضباط حركة الشارع والتزامها بمرجعية سياسية مأمونة دينيا وموضوعيا، ووعيا سياسيا، وتحملا للأمانة الثقيلة انسجاما مع المقررات الدينية الثابتة التي لا مناص لمؤمن منها.
8- هدفنا تحسين الأوضاع الحقوقية للشعب وتفعيل حركة الإصلاح الحقيقي لا إيجاد سلسلة من الأزمات مع النظام القائم. على أن الجانب الرسمي في بعض تشكيلاته وفي بعض الظروف قد يتعمد خلق بعض الأزمات للتخلص من الإحراجات الحقوقية الملزمة، ولتحويل المسار السياسي، وتوجيه دفة الحوادث بما يحدث انقلابا على الحقوق بدرجة أكبر، ويبرر لتوجيه ضربات مقصودة. وإذا حدث هذا فضرره ليس على الشعب فقط وإنما على كل ركاب السفينة.
9- نرى ولحد الآن جمودا كبيرا غير متوقع في الحال الإصلاحية، وتعطلا بينا في حركة الإصلاح الموعود، ونطالب بحلحلة الوضع بلغة الحكمة والعدل والإنصاف والإصلاح فيما يتعلق بملفات رئيسية كثيرة منها: الملف الدستوري، ملف التجنيس، التمييز، الملف الخلقي، الثقافي، الحرية السياسية والإنسانية الشريفة، ملف التعطل عن العمل، معالجة وضع الأجور بصورة عادلة، العمالة الأجنبية، الفساد المالي والإداري، الضمان الاجتماعي المجزي، التأمين ضد البطالة مع العذر، الناحية الأمنية، وحرية الصحافة النظيفة الملتزمة التي تراعي دين الأمة وقيمها وضوابطها الشرعية وحرماتها.
10- نؤمن بالقيمة العالية للوطن والحفاظ على استقلاله ومصالحه ووحدته وانتمائه الديني والتاريخي، ولا نجيز لأنفسنا أن نخل بشيء من ذلك، ونطالب النظام كما نطالب أنفسنا بهذا الحفاظ وهذا الالتزام بالدرجة نفسها أمام القوى الكبرى.
ونحن مع الوحدة الوطنية، ولا نريد أن ندخل في مواجهة مع النظام، ولا مقاطعة له، ولا قطيعة معه، أما المقاطعة لهذه المؤسسة أو تلك من مؤسساته تصحيحا للأوضاع فهي أمر آخر مختلف تماما عن المقاطعة أو القطيعة مع النظام. فقد نقاطع هذه المؤسسة كما نحن مقاطعون للمجلس النيابي، أو تلك المؤسسة ولكن هذا ليس في سياق مقاطعة النظام نفسه. وتحكم علاقتنا مع النظام ومشروعاته، وكل مؤسساته، وفي كل الفروض والحالات ثوابت الدين ومصلحة الوطن والشعب.
11- نملك وعيا إسلاميا عاما ومذهبيا خاصا في إطار الإسلام ومن عطاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام وفقههم الدقيق وتقواهم العالية يحرم علينا أن نعمل على فرقة المسلمين وزرع الخلافات العملية بينهم والانتقاص من حقوقهم، فضلا عن الاستخفاف بدمائهم وأعراضهم وأموالهم، ومسها بأقل أذى وأدنى سوء.
ويدفعنا هذا الوعي إلى العمل على وحدة المسلمين ورعاية الحقوق فيما بينهم، وتناصرهم في الحق والدفاع عن حمى الإسلام وكرامة المسلمين ومصالحهم بعيدا عن الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين من الملل الأخرى وشركاء الخلق، وأجناس المخلوقات.
أما المذهبية العقيدية والعبادية فمتروكة لمسئولية الأفراد ومداركهم وافهامهم في حرية بيان الرأي العلمي لكل مذهب في أسلوب غير عدواني، ومراع لأدب الإسلام وأخلاقياته الرفيعة.
تصورات ومواقف
1- إذا ذهب فكر الحكومة إلى أن استعمال القوة المفرطة أو القوة من غير حق سيحقق حلا على طريقة التركيع فهو خطأ بين بدلالة الكثير من شواهد الساحة العالمية والمحلية.
وللشهادة العادلة أقول: إن الحكومة ومع الأسف الشديد تبدي موقفا استعلائيا ضد قضية الحوار، وتسكت طويلا عن الإصلاحات الجذرية، وتميل أحيانا إلى أسلوب البطش والقوة بانفعال غير لائق.
2- قبل كل شيء لسنا دعاة فوضى وحياة لا قوانين فهي أصعب حياة ولا تلتقي مع قناعاتنا الدينية والموضوعية أبدا. ولكن القوانين ثلاثة؛ عادل ينبغي للناس أن يأخذوا به عن طيب خاطر، وظالم يمكن الصبر عليه إلى حد، وظالم لا يمكن الصبر عليه على الإطلاق.
وكل من الثاني والثالث يجب إنكاره ورفضه والعمل ضده، وهما من أبشع أنواع الظلم وأقبحه.
والتصنيف لقانون الجمعيات وقانون التجمعات أنهما من الفئة الثالثة فيتوجب العمل الجاد على منع ولادتهما واكتسابهما الشرعية الوضعية الكاملة، وإن قطع الأول مرحلتين على طريق ولادته القانونية المشئومة التي نتمنى أن لا تجد النور فتطمس كل معلم لحياة الحرية الكريمة، وتنشر الظلمة القاتمة.
إن هذا النوع من القوانين التي تؤسس للظلم وتركزه، وتضيف إليه تكميم الأفواه، وإخضاع الرقاب والتركيع، وإخماد كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأسر الإرادة الكريمة للإنسان، وصوت الضمير الحي هي من الظلم الذي ليس للناس أن يكتوا عليه.
ومجرم في حق نفسه، وحق وطنه، وحق الإنسانية من يستطيع إحباط هذا النوع من القوانين ويقصر في ذلك. والوسائل دائما سلمية.
وموقفنا أننا لسنا مع التمرد ضد مطلق القوانين ولكن يتوجب علينا القول إن علينا جميعا أن نعمل بكل الوسائل السلمية الضاغطة على إجهاض أي قانون جائر يراد له أن يولد لتثبيت الظلم وإضفاء الشرعية على الممارسات الباغية، ولإدانة المطالبين بالحق، والمنكرين على الخطأ، وأن نعمل كذلك على إقبار حزمة القوانين التي ولدت وهي من هذا النوع.
3- أنا مع غلق الجمعيات السياسية أبوابها مدة معينة احتجاجا على قانون الجمعيات وهي خطوة قانونية عاقلة ومعبرة وذات اتجاه صحيح جدا.
وأنا كذلك مع هذه الجمعيات حين تختار أن تحل نفسها إذا رأت أن وجودها سيكون شكليا بسبب القيود المثقلة باسم القانون، والمفترسة للحرية والملغية لهامشها الضيق، وسيكون مجرد واجهة كاذبة لديمقراطية مفقودة على الأرض، ومخنوقة بشبكة من القوانين الجائرة.
وليس من قانون في أي بلد يمكن أن يأخذ مجراه العملي، ويجد تطبيقه في حياة الناس إذا رفضه الشعب رفضا عمليا قاطعا وقانونا الجمعيات والتجمعات حقيقان بأن يوءدا قبل أن يولدا.
4- المظاهرات والمسيرات والاعتصامات مسموحة أو ممنوعة؟ إذا كانت ممنوعة فعلينا أن نطالب بالسماح بها والحق معنا في هذا الأمر من الدين ثم من الميثاق والدستور ومستوى الشعب ومعاناته.
وإذا كان مسموحا بها فأين تكون؟ المؤسسات الحكومية ممنوعة لقدسيتها - بيت الشعب ممنوع لئلا تهان كرامة الشعب - الشوارع ممنوعة حتى لا تتعطل حركة المرور - السوق ممنوعة لئلا تتأثر حركة الاقتصاد سلبا - أماكن السكن ممنوعة حتى لا تقلق راحة الأهالي الذين لا قلق لهم إلا من هذا الوجه. المساجد ممنوعة لئلا ترجسها الشكاوى من ظلم السياسة وهي لا تترجس من السياسة وخطب تقديسها وتركيزها وتثبيتها.
بقيت المقابر فتظاهروا بقربها واعتصموا فيها ولكن سيقال لكم لقد آذيتم الموتى فاتقوا الله ولوذوا بالصمت في البيوت.
ونحن وإن لم نكن مع المسيرات حيث تكون بلا حساب ولا دقة ولا تدبر ولا ضوابط، ولا قيادة حكيمة عارفة محيطة بالحكم الشرعي، ونريد للأجواء أن تميل إلى الهدوء ما أمكن في غير ضياع للحقوق وسكوت على الظلم والتلاعب إلا أننا ننبه على هذه الحقيقة.
هذه الحقيقة هي: أنك إذا أقمت على كل طريق إشارة حمراء، وفرضت أن تستمر هذه الحال فإن كل أهل المركبات المتعطلة سيضيقون ذرعا، وستنطلق حركة السير بلا حساب حتى لو كانت تصادمات وحوادث، فاحذر أن تغلق كل الطرق، وإذا أقمت على كل معبر حاجزا، وضاق الناس بالحواجز وخافوا على حياتهم فإن الأعرج والضعيف سيغامر بأن يحاول القفز على الحواجز، وإن تهدده السكوت.
فلنحذر من حالات الخنق، وحالات التضييق، حالات الأسر، ومن كثرة الإشارات الحمراء، ومن إقامة الحواجز على كل المعابر فإن هذا الوضع ينتهي إلى نتيجة تضر بالوطن والمواطن بكل فئة.
5- على جمعية الوفاق وسائر الجمعيات أن تحتضن بدرجة أقوى فاعلية وجدية واهتماما قضية العاطلين عن العمل وتدني الأجور والتأمين ضد البطالة بصورة مستعجلة إذا بقيت هذه الجمعيات عاملة ولم تختر أن تحل نفسها بضغط الظروف القائمة.
وعلى الأبناء العاطلين المطالبين بحقوقهم أن يتعاونوا في هذا المجال مع العمل المؤسسي ما أمكنهم ذلك، وأن لا تكون لهم اجتهاداتهم المنفردة عن خط العمل السياسي الإسلامي.
وعلى الحكومة أن تفتح الطريق لحلول مستعجلة وأخرى طويلة المدى لهذه المشكلات عن طريق التفاهم مع العمل المؤسسي وبسرعة وبلا تسويف احتواء للمحتملات غير المرغوبة، والتطورات السيئة.
أين العلماء؟ سؤال قد يطرح شفقة عن براءة أو إضرار. ولا يطرحه في العادة إلا بعيد عن العلماء أو غافل أو متغافل.
وبعيدا عن دعوى العصمة للعلماء، فهي غير موجودة، وأداء الواجب على أتمه وكما ينبغي، وهو ليس بحاصل، وعن دعوى التنزيه عن القصور والتقصير للمجموع العلمائي، ولا أحد يذهب إليها، أو لأي واحد من هذا المجموع وهي دعوى لا أحد يذهب إليها أستطيع أن أقول واثقا عن الحال العلمائية بصورة مجملة لا التفات فيها إلى عدد الأفراد، أستطيع أن أقول إن العلماء لهم حضور في كل الساحات وفي كل المعتركات الثقافية والسياسية والاجتماعية، أنا لا أتحدث عن شخص معين، إنما أتحدث عن المجموع العلمائي فإن المجموع العلمائي لا يعيش حال الغيبوبة، ولا يعيش حال اللامبالاة، ولا يقبع وراء جذر بعيدا عن حركة المجتمع.
هم في قلب المعترك الثقافي والاجتماعي والسياسي ولكن ليس دائما على الطريقة التي يراها الإنسان العادي وتنتجها ذهنيته، ويصممها نظره للأمور وتقديره وموازناته ومقارناته وينتهي إليها فهمه.
وقد لا يستسيغ العلماء الأخذ بالدعاية العريضة والإعلام الواسع لمواقفهم في حين أن عليهم إذا عقلوا أن يتهموا أنفسهم دائما بالقصور والتقصير.
وأنا أتحدث هنا - كما سبق - عن حالة وليس عن شخص بعينه، فقد يكون الشخص مصداقا للتخلي عن عذر أو غير عذر عن واجب الحضور الكافي في الساحات الجهادية المتعددة؛ أما رمي العلماء جملة وتفصيلا بهذا الأمر فهو من الغبن الفاحش.
وسيظل العلماء المخلصون من بين الصفوة الخالصة من الأمة يحرسون حدودها ويذودون عن حماها، ويثبتون أصالتها من غير أن يكون أكبر همهم أن ينالوا من دنيا الناس؛ والناس لا يملكون لأنفسهم من دون الله نفعا ولا ضرا
العدد 1051 - الجمعة 22 يوليو 2005م الموافق 15 جمادى الآخرة 1426هـ