بعد ابحار مضطرب وأسفار مليئة بالغموض والأسرار يبدو أن سفينة حكام العراق الجدد قررت أن تكون موانئ بلاد فارس محطتها الأكثر أمنا من بين محطات الرهان الإقليمية والدولية المتعددة.
فأن يتحول العراق "العدو" الذي خاض يوما حربا ضروسا ضد الحكم الإسلامي في طهران إلى "الشقيق" الذي ينبغي وضع جميع إمكانات بلاد فارس من أجل إعادة الرفاه والتقدم إليه، لا يمكن إيجاد أي تفسير له سوى أن طهران تعتبر نفسها بأنها انتصرت ولو متأخرا في حرب الثماني سنوات التي فرضت عليها في الثمانينات وهي لم تزل وليدة، بفضل صبرها و"تقيتها" السياسية الطويلة والقاسية مع قادة الحرب الحقيقيين أي الأميركيين.
فالأميركيون في نظر طهران هم الذين أوعزوا لحكام بغداد آنذاك بإعلان الحرب ضد ثورتهم في محاولة لوأدها في المهد، وهم الذين كانوا ومازالوا يبيتون السوء لبلادهم، فهل هناك أبلغ من أن يذيقوهم العلقم من الكأس نفسه الذي أجبروهم على تجرعه في العام 1988م، من دون أن يطلقوا طلقة واحدة؟!
هذه هي الرسالة التي أراد صناع القرار في طهران إرسالها للأميركيين من خلال استقبالهم الحافل للجعفري ونصف مجلس وزرائه تقريبا مع كل ما رافق تلك الزيارة من اتفاقات استراتيجية في جميع القضايا الحياتية والأساسية التي تتعلق في بناء العراق الجديد. عراق خال من صدام حسين وكل من يمت له بصلة وإن كانت بعيدة، حتى وإن كان مثل اياد علاوي الذي حاول لعب دور "المناضل" و"المتعاون" في معركة بناء العراق الجديد.
عندما أبديت استغرابي يوما وأنا أحاور أحد صناع القرار الإيراني على سياسة بلاده تجاه حكام العراق الجدد الذين حملهم الاحتلال الأميركي البريطاني إلى سدة مجلس الحكم الشهير، قال لي يومها: "أستحلفك بالله كيف كان تصورك للتشكيلة الحاكمة لبغداد لو أن طهران هي التي أسقطت نظام صدام حسين، فهل كان شكلها سيختلف عما اختاره الأميركيون؟!".
إنها لعبة فن الممكن البراغماتية المسكونة بأعلى درجات "التقية" السياسية الممكنة أليس كذلك؟! هذه هي أوراق اللعبة المتوافرة والمتداولة في بازار إعادة صوغ العراق الذي أدركت طهران مبكرا أنه افتتح مع قرار واشنطن المبكر والأكيد على طريق إقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير وفي خضم الحرب العالمية للسيطرة على الموارد وفي طليعتها موارد البلاد العربية والإسلامية.
دفعت طهران يومها بكل ثقلها من أجل أن تكون الحاضر الغائب في كل تفاصيل الأخذ والعطاء "البازاري" العراقي مع الاحتفاظ الدائم بأوراقها الخفية الخاصة بها. ولما كان كما يقال: "من حضر السوق باع واشترى" فها هي طهران تكسب الجولة الثانية بعد أن كسبت جولة الإطاحة بصدام حسين والانتصار في حرب الثماني سنوات من دون أن تطلق رصاصة إضافية واحدة بعد وقف إطلاق النار الرسمي في العام 1988م.
من يعرف طهران جيدا يستطيع التأكيد أنها لا يمكن أن تثق بالأميركيين بأية حال من الأحوال حتى وإن كانوا هم الذين أتوا بأصدقائهم وحلفائهم إلى السلطة في بغداد.
ومن يعرف حكام العراق الجدد من "شيعة وأكراد" جيدا يستطيع التأكيد أيضا أن الطبقة السياسية العراقية الحالية ليست مجرد "عميلة" لإيران كما يحاول البعض أن يصفها، كما انها ليست بالضرورة ورقة سهلة ولينة بيد الأميركيين حتى يمكن المساومة معهم في لعبة الأسرار والغموض التي تحيط بمستقبل العراق الجديد لكن الشيء الأكبر والقدر المتيقن حتى الآن هو أن لا أحد من هذه الأطراف الثلاثة قرر أن يكشف أوراقه ورهاناته الحقيقية بعد.
فأميركا ترى نفسها اليوم مجبرة بعد تخبطها وتعثر حظها مع العراقيين أن تدفع ثمن ذلك كله بالإقرار لدور مركزي لطهران في مستقبل العراق. والنخب العراقية السياسية الجديدة ترى نفسها أمام قدرها الذي لا مهرب منه، فبعد أن خسرت في كسب رهان "العرب" عليها وهي ترى خطها المتعثر في رمال بلاد الرافدين المتحركة مع حلفائها من حلف الأطلسي لم يبق أمامها إلا أن ترسو مراكبها في الخليج.
وأما طهران التي كانت تتمنى أن تكون "كربلاء" المحررة على يدها هي الممهدة لحرب تحرير القدس فإنها تجد نفسها اليوم "قانعة" ولو إلى حين بعراق أقل ما يقال عنه إنه غير قادر على منعها من الاستمرار في مهمتها المفضلة تلك، ناهيك عن أن يكون في أمس الحاجة إليها كصديق إن لم يكن بمثابة الشقيق المستقبلي الذي يمكن أن تراهن عليه في معركة - خيارات الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الإسلامي!
وإلى حين انقشاع السحابة الداكنة التي تخيم على العراق الجديد، والتي بدأت تجلب الأرق لكل اللاعبين على أرضه بسبب سياسة "الفوضى الخلاقة" أو البناءة التي اتخذتها إدارة المحافظين الجدد كميدان اختبار أول في بغداد فإن طهران تبقى هي الرابح الأكبر حتى الآن من دون أن يمنع ذلك، إن الجميع صار مسكونا بقانون التقية القائل: "احفظ ذهابك وذهبك ومذهبك"
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1051 - الجمعة 22 يوليو 2005م الموافق 15 جمادى الآخرة 1426هـ