في بلد اسلامي كبير حجما وموقعا ودورا، قامت معارضة ذات بعد طائفي بسبب المعاناة من التهميش والاستبعاد لعقود من عمر الدولة التي تأسست في الحرب الأولى، وبتأثيرات داخلية وخارجية وبدءا من العام ،1979 تجاوزت هذه المعارضة اعتراضها المكبوت أو المعبر عنه أحيانا بخوف شديد، الى المجاهرة وخصوصا من مواقع تمركزها في الخارج، وصولا الى التنديد الذي لم يلبث ان تطور الى عمل ودعوة الى قلب الأوضاع جذريا، بدل الاقتصار على المطالبة بالانصاف، ثم تفجر الوضع وتم اللجوء الى عمليات عسكرية تفجيرية مختلفة الاحجام ضد مؤسسات الدولة.
وفي لحظة وصول المعارضة التي استقر معظم قياداتها وكوادرها في الخارج الى قناعة بأن تعاونها ضد السلطة في بلدها مع طرف خارجي لن يكون محكوما الا بمصالح هذا الطرف حصرا، انتبهت الى ان المتوقع والمنطقي قياسا على تجارب أخرى هو ان الطرف الخارجي المناصر للحركة ضد دولتها، سيتحول الى خيار التفاهم والمسالمة مع هذه الدولة تحقيقا للمصالح الوطنية المشتركة، ما يعرض الحركة الى فقدان الغطاء المستعار والانكشاف الكامل، وسارعت الحركة الى التدقيق في حساباتها، عندما بدأت تظهر علامات التحول المتوقع في التعاطي السلبي من سلطات الطرف الخارجي مع فعاليات الحركة وتحرك قياداتها وكوادرها. وعندما انفتح باب الدولة في البلد المعني على التواصل انفتحت المعارضة على الدولة وتبين ان كلا من الدولة والمعارضة قد شرع في فهم الآخر فهما مختلفا، الى ذلك فإن التحديات والحوادث الاقليمية والدولية والتحولات العميقة في وعي وسلوك الحركات الثورية اقنعت المعارضة بضرورة توطين أطروحتها والعودة الى الداخل بالتفاهم مع السلطة، وحدثت المصالحة والعفو العام والعودة وبادرت الدولة الى الانصاف البطيء الذي يتحمل الاعتراض والنقد من دون العودة الى الصراع.
وأخذت المعارضة من الداخل وعلى أساس الوعي والايمان بصوابية وجدوى وضرورة الاعتدال والحوار والمراكمة الهادئة لعمليات الاصلاح والحركة المطلبية، أخذت تقدم خطابا وطنيا فسيحا متحررا نسبيا من ذاكرة السلبيات وعلى اساس التعامل المنهجي والاخلاقي مع التعدد ومع تمييز الدولة بين مكونات الاجتماع الوطني "الطوائف" والذي له تاريخ معقد ولكنه ليس بالضرورة ان يبقى اسير هذا التاريخ اذا ما تعاون الجميع على تحسين ظروف وشروط الحاضر والمستقبل بعيدا عن العقد التاريخية وأثر ذلك في تغيير خطاب الدولة نحو الاطر الشعبية المهمشة والتي تشك الدولة بولائها وأصبحت الدولة معنية أكثر بدورها الجامع واشد وعيا بضرورة اعادة تأسيس الوحدة الوطنية من أجل مواجهة التحديات التي تطال الجميع "الدولة والمجتمع" ولا ضمانة في مواجهتها الا في جهود الجميع، وامتد تأثير هذا المنحى الى القوى الشعبية والمؤسسات الفكرية والدينية وكل ما يتصل بتشكيل الفضاء العام للدولة وسلطاتها.
الى ذلك ومع ذلك ومتأثرا بذلك الى حد ما تحرك الحوار سبيلا الى الاصلاح ليبلغ مساحات تتعدى المعارضة التي تأسست على الاحتجاج ضد التمييز الطائفي، لتصل الى الوسط السياسي والديني الذي اعتاد على انتاج الدولة وسلطاتها وإداراتها بشكل شبه حصري، بعد الانتباه الى ان التعدد هو حال تشمل جميع مستويات الاجتماع الوطني، اذ لا واحد بشكل مطلق في أي اجتماع بشري وان الوحدة في كثير من مظاهرها لا تخفي ولا تمنع الاختلاف، وتشكلت ورشة وطنية واسعة وناشطة لم تخل صفوفها من تطرف في النزوع الاصلاحي ومن عناد ومكابرة في مقابله، واشتغلت هذه الورشة حوارا يوميا من دون خطوط حمر، ومن خلال الدولة والمؤسسات الاهلية والاعلام والثقافة اشتغلت على تظهير وترسيخ وتعميم خيار ووعي المواطنة نصابا جامعا لجميع الانتماءات والمشارب والحساسيات مع تعديل في نظرة كل فئة أو طائفة الى ذاتها والى الآخر وتحرير المساحات المشتركة في الدين والسياسة والقيم وضبط الاختلاف لمنعه من ان يتحول الى خلاف يؤول الى الصراع المباشر أو غير المباشر، هذا مع اعادة نظر في مسألة الاقلية والأكثرية على طريق الشراكة وتحويل العدد الى معنى وطني تعتصم من خلاله الاقلية بالاكثرية وتزيد الاكثرية به ضمانات اعتصامها الذاتي.
إذا، فالمسار الحواري على أساس وطني من شأنه ان يرقى بالجماعة الشيعية أو السنية مثلا الى مستوى وطني تصبح فيه الاقلية تكليف الاكثرية وكذلك العكس، من دون تسرع أو تباطؤ ومن دون تأجيل المستحق من المطالب المشروعة والممكنة، أو تعجيل المؤجل، ويصبح الوعي الوطني لدى الاقلية أو الاكثرية ضامنا لصاحب المطلب المشروع حتى لا يتحول نضاله الى شقاوة وطنية أو مغامرة أو مخاطرة أو مقامرة تزيد الشقة وتعقد الامور وتعيد الوعي الفئوي بذريعة الخطر الى عصبية متوترة ونابذة... ومن الدولة العربية التي تتعرض لتطورات تعقد مسيرتها من دون ان تقطعها بل ومن شأنها أن تعمق الرؤية الإصلاحية وتوسع ورشتها... اتاني خبر يقول إن مسئولا كبيرا فيها كان يتكلم في لقاء عن مقتضيات الامن الوطني، وبعدما تذوق حلاوة المصالحة واكتشاف الآخر المعترض وأسباب الاعتراض... قال المسئول ما مضمونه إنه لا يجوز ان نطمئن بشكل مطلق الى حال الوحدة في جماعة معينة على اساس الجامع الايديولوجي لأن هذه الوحدة قد تنفجر بعنف أكثر من انفجارات الجماعات المختلفة ايديولوجيا عن الجماعة الغالبة أو الحاكمة ما يعني ان الخلاف الفكري أو الديني أو المذهبي ليس كافيا لاعتبار ان العداوة والفصال أمر راسخ ونهائي.
هذا وقد عاشت دولة خليجية أخرى تجربة مرة، اذ انفصلت فيها مجموعة على اساس عقيدة ثورية يسارية ومارست عنفا معروفا ضد الدولة فتبين ان الانشقاق على أساس عقائدي سياسي عن الجماعة الأم يؤسس لعداوة وقطيعة أعمق من الاختلاف المذهبي، لأن التناقض في هذه الحال يصبح في وعي المجموعة المنشقة اساسيا وتناحريا ولا يتم حله الا بالغاء احد الطرفين للآخر تماما... ودخلت ايران في عهد الشاه أمنيا وسياسيا وعسكريا على الخط مناصرة للدولة وان كانت في الاساس معادية لها. كما لم تعدم المعارضة مناصرة لها من الدولة والجماعات السياسية العربية القومية واليسارية في الكفاح المسلح ومستلزماته ولكن التجربة المرة اشعرت الدولة والجماعة المنشقة بأن الحائط مسدود ولابد من المصالحة والمصارحة والحوار وتأسيس أثر أكثر في بناء الوطن والمجتمع الوطني، أي الاصلاح من خلال اتاحة مساحة اضافية من الحرية والعدالة الاجتماعية "الخبز والمعرفة" ومن دون تسرع أو بطء ومع الاستعداد لتفهم التسرع أو التباطؤ أو البطء اذا ما حصل... وعمدت الدولة الى ادخال قيادات الحركة المسلحة وكوادرها في إدارة الدولة وادخال قواعدها تدريجا وفي حدود الامكان المتفاهم عليها ضمنا في دورة العمل والانتاج الوطني، واستقرت الدولة واستقر المجتمع بنسبة مجزية ومن خلال المشاركة التي قد لا تكون تامة أو كافية ولكنها بدأت وبدأ معها الوعي الوطني يتصاعد والحوار داخل المجتمع وبين الدولة والمجتمع يتواصل، وازدهر العمران والانتاج وترسخ الأمن الذي باتت الدولة تحسد عليه وعلى كونها حتى الآن بعيدة نسبيا عن مخاطر التطرف والعنف العشوائي المدمر.
هاتان الحكايتان معروفتان للقاصي والداني، وهناك كثيرون من الاطراف المعنية في مجراهما ومن غيرها، يعرفون من تفاصيلهما وعمومياتهما أكثر مني وكثيرون يستعيدونهما نقدا وتأييدا رجاء وشكا، غير اني آت من لبنان الذي كنت أقدم مثاله ما بعد الطائف نموذجا لالتئام اطراف المتعدد بعد الانقسام والصراع الطويل، مفضيا الى القول بأن هذا المثال لا يأتي من خيال ولا من خصوصية لبنانية، والدليل ما حصل في المنامة على مفصل الميثاق والمصالحة والمصارحة التي بلغت ذروتها حتى تلاشت مساحة المحرمات في القول والتعبير عن الاعتراض، ما جعلني وجعل الكثيرين من المراقبين المحبين والمنتظرين للخيرات الآتية في المسيرة البحرينية، يحملون البحرين عبء صوغ رؤية اجتماعية ثقافية نهضوية للخليج عموما استنادا للموروث الثقافي البحريني الممتاز وللتعددية البحرينية التي لم تتعامل بالمكبوت أو المسكوت عنه، وان كان القول قد بلغ يوما من الايام درجة من السخونة التي اشعلت نارا، ما كانت لتشتعل لولا ان صقيعا أدى الى تجاهل عوامل السخونة... والمنامة التي لا يتصل مشهدها اليومي الآن بأعماق الصيغة الميثاقية التي نقلتها من حال الى حال، بحاجة ماسة، من أجلها ومن أجل العرب جميعا والمسلمين جميعا، ان تستعيد برودتها باعتدال على ان تكون البرودة عامة وليست مقتصرة على طرف من الاطراف.
واعتقد ان المؤسسة الوطنية المثلى الآن والتي هي الى مزيد من الفعالية مستقبلا، اعني مجلس النواب، بشرط مزيد من امكان الاختيار الحر في الانتخابات المقبلة، ومزيد من المشاركة الشعبية بعيدا عن الطفولة الثورية والمغامرة، مجلس النواب هذا هو الذي يضع نظام العلائق العتيدة والسعيدة ويعمق الروح الميثاقية في الدستور ويفتحها على المزيد من الانجاز من دون تسرع أو تسويف
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 1049 - الأربعاء 20 يوليو 2005م الموافق 13 جمادى الآخرة 1426هـ