"على الصحافة أن تتأدب!!".
الشيخ عيسى قاسم "رجل دين بحريني"
يعرض محمد داوود إحدى أهم المقابلات الإعلامية مع الأميركي إدوارد هيرمان، والتي تحتوي على أحدث النماذج الشارحة لتقنيات وتكتيكات تدفق الإعلام الحديث. هيرمان هو أستاذ زائر بمدرسة وورتون بجامعة بنسلفانيا الأميركية، وهو أحد المشاركين في تأليف الكتاب البارز "صناعة القبول". ويعتبر من أفضل الكتاب الإعلاميين اليوم.
في هذه المقابلة الكثير من التحليلات المطولة عن الإعلام ومفاهيمه وأدواره الحديثة، حاولت استعراض أهم ما ذهب إليه هيرمان، في مزاوجة مع مقولة رائجة "على الصحافة أن تتأدب!"، وهي مقولة أطلقها الشيخ عيسى قاسم أحد رجال الدين البحرينيين.
إن الدعوة إلى الصحافة بأن تلتزم الأدب، يقتضي ضمنيا أنها تفعل ما هو خارج حدود الأدب، لنا أن نقبل طبعا "فرضية" خروج الصحافة مجملا عن الأدب في بعض الأحيان، بعيدا عن التعلق بمناسبة المقولة المذكورة، أو الدعوة إلى التزام الأدب مجملا بما يخدم مناسبة المقولة. الذي يهمني تحديدا هو أن يفهم القارئ تلك المعوقات التي تمنع وسائل الإعلام من أن تلتزم الأدب، بمعنى، أن ثمة أسبابا وعوامل تجعل الصحافة وأجهزة الإعلام ككل غير قادرة على التأدب.
يعرض إدوارد هيرمان تحليلاته الخاصة في هذا السياق، أشاركه في بعضها، إلا أن تجربة هيرمان تتصف بالتجاوز لبعض الإشكالات التي تعاني منها صحافتنا الخليجية، فليست إشكالات الالتزام بالآداب العامة أو الآداب السياسية أو الاجتماعية في التجربة الأميركية هي ذاتها في سياقنا العربي. لذلك حرصت على سبر الموضوع بطريقة أكثر موضوعية وواقعية وملامسة لواقعنا الإعلامي اليوم.
النموذج الدعائي
يعرف هيرمان نموذجه الدعائي بأنه الطريقة التي يعمل بها الإعلام، شارحا بما تستند إليه من الشروط الهيكلية الأساسية التي تعمل أجهزة الإعلام وفقا لها. هذا الوعاء تحديدا ما يجعل من الصحافة ومن باقي منتجات الإعلام خارجة عن الالتزام بالأدب أو ما يرغب الناس في سماعه أو قراءته أو مشاهدته.
هذا الوعاء "الدعائي" يتكون من خمسة عناصر يمكن النظر إليها "كمرشحات"، أو منقيات للأخبار "أجهزة ترشيح"، إن استخدام أو عدم استخدام أجهزة الإعلام لمادة خبرية سيعتمد على ما إذا كانت المادة ستجتاز هذه "المرشحات" أم لا، وفي هذه المرحلة تحديدا يفقد الإعلام وظيفته أو تنتقص آدابه.
أولا - الملكية
أولى هذه المرشحات هي قوة ونفوذ بعض الشخوص الإعلامية والمؤسسات الإعلامية المتغولة، إن الأثرياء من الأفراد كالوزراء والمستشارين الحكوميين والطامحين للمناصب العليا، والشركات الكبرى "المؤسسات الصحافية التي تدعمها الحكومات علنا وسرا"، يملكون ويسيطرون على وسائل الإعلام ذات النفوذ، ومن شأن هذه الملكية والطموحات مجتمعة أن تجعل وسائل الإعلام منحازة وغير مستقلة.
يتعين على المرء افتراض أن أولئك الذين يسيطرون على وسائل الإعلام سيهيمنون عليها. إنهم سيقومون بانتقاء من يريدون من الأشخاص، ولن يسمحوا لمرؤوسيهم بالاقتراب من ما هو محظور. فليست وسائل الإعلام إلا وسيلة لجني المزيد من الأرباح، وليس للأدب حضور هنا، فقط للغة التملق والوصول معنى.
من الهراء الاعتقاد أن أسرة مثل أسرة سولز بيرغر، والتي تبلغ حصتها ما قيمته مليار ونصف المليار دولار في إحدى أهم الصحف الأميركية، ستسمح لأدواتهم "صحيفتهم" بأن تفعل شيئا يتناقض مع مصالحهم كمجموعة استثمارية واقتصادية تسعى إلى النمو والازدهار. هذا ما يجعل صحافتنا عاجزة عن أن تكون صحافة مؤدبة، مادامت مصالح البعض "غير المؤدبة" تلعب لعبتها لربح المزيد من المال وللرقي في مناصب أعلى يوما بعد يوم.
ثانيا - حجم الإعلان
تحصل الصحف على نحو 70 في المئة تقريبا من إيراداتها المالية من الإعلانات. كما يحصل التلفاز على ما يتجاوز 95 في المئة من إيراداته من الإعلانات.لا يمكن ان تكون مواد الإعلام مهملة لمصالح ورغبات مصادر تمويلها ورواتب موظفيها، ولدى وسائل الإعلام أناس يتجولون في كل مكان محاولين تسويق مؤسساتهم الإعلامية والحصول على إعلانات مربحة دورية أو آنية.
المعلنون لا يتدخلون في المنتج الإعلامي طوال الوقت، وهم لا يقومون باستدعاء وسائل الإعلام وتأديبها، فهذا ليس أسلوبهم الرئيسي في العمل. أسلوبهم في العقاب هو ببساطة "توقف الإعلانات"، وليس من المعقول أن تتوقف الإعلانات إلا إذا أساءت المؤسسات الإعلامية "الأدب" مع تلك المؤسسات، وهذا ما يجعل البعض من الجمهور أن يعتقد أن الالتزام بالأدب مع رغبات المعلن، هي ممارسة "لا أدبية" معهم.
كمثال بسيط تذهب شركة "بروكتور آند غامبل"، وهي احدى كبار المعلنين في السوق الأميركية، إلى اعتماد قانون غير مكتوب خاص بالإعلانات. إنها لا تدعم أية برامج تسيء إلى الجيش، أو تقول إن مجتمع رجال الأعمال ليس مجتمع خير وتنمية.
يتضمن كتاب بن باغد كيان "احتكار وسائل الإعلام"، استشهادات مباشرة من بروكتور آند غامبل وهو يوضح أيضا أن لدى الشركات الأخرى تعليمات تقول إنها لن تعلن في وسائل إعلام لا تتوافق مع "معايير خاصة" هي في الواقع معايير سياسية.
ثالثا - الموثوقية الزائفة
هنا تأتي المصادر الإخبارية، وتشمل المؤسسات الحكومية والمدنية والاجتماعية، إذ تحتاج وسائل الإعلام إلى مصادر للأخبار. ترغب وسائل الإعلام الكبرى في مصادر تزودها بالأخبار على أساس يومي، ولابد أن تتمتع بالصدقية، والوثوق، وقلة الكلفة وتحقيق الاحتكار والسرعة في تلقي الخبر. هذه الحاجة تضطر الصحافيين الإخباريين إلى إقامة علاقة ودية مع موظفي المراكز الحكومية الكبرى.
غالبا ما تكون هذه العلاقة محكومة بخصائص مميزة، ومن أهمها ألا تلتزم بالأدب والصدقية في التغطية حفاظا على المصدر من الضياع في المستقبل. هذا ما يجعل الصحافي عاجزا في بعض الأوقات عن البوح بكل شيء، خوفا على مصدره من الضياع.
هناك اتجاه قوي في وسائل الإعلام، ولاسيما الكبرى منها، للاقتراب من المصادر ذات القوة، والتي تزودها بأخبار صحيحة وسريعة ومهمة، ويقول هيرمان: "حين يقوم الصحافيون بهذا الأمر فإنهم يطورون علاقاتهم مع هذه المؤسسات. إنهم بعد فترة يصبحون ودودين مع الأشخاص الذين يوفرون لهم الأخبار، تنمو هذه العلاقة بشكل قد لا يشعر الصحافيون به"، وخصوصا إذا ما استطاع موظفو العلاقات العامة في تلك المؤسسات من رشوة الصحافيين ولو عبر رشوة "رمزية"، ومن أجل ذلك، فإنهم دائما ما يتقولبون داخل المعلومات ويصبحون جزءا منها، وبالتالي تتطور علاقة قوية بين هذه المصادر الكبرى ووسائل الإعلام. هذه المصادر الكبرى لا ترغب في التعاون مع أناس معارضين يقومون بانتقادهم بشدة، لذلك على الصحافي ألا يسيء "الأدب" معها، ولو كان الثمن هو إساءة "الأدب" مع القراء كافة.
رابعا - التغذية الاسترجاعية
يتمثل "المرشح" الرابع حسبما يذهب هيرمان في المواد ذات التغذية الاسترجاعية السلبية. يمكننا أن نطلب من الصحافة أن تتأدب عبر شكوى رسمية، غير أن الشكاوى التي تؤثر على الصحيفة في الحقيقة هي تلك التي تمثل تهديدا جديا بالنسبة إليها، مثل الحكومة، المعلنين الكبار، المستثمرين والمجموعات المنظمة الأخرى، أو شخصية كاريزمية ذات ثقل اجتماعي.
كمثال، قد تتأدب صحيفة ما عبر تلقيها تهديدا جادا من إحدى المؤسسات القوية، أو الشخصيات السياسية أو الاجتماعية الفاعلة، إلا أنها لا تهتم أبدا برسالة قارئ عادي لا حول له ولا قوة، بمعنى أنه لن يؤثر عليها سوى بفقدان قيمة عدد واحد إن توقف عن شراء الصحيفة في أقصى ردة فعل متوقعة.
خامسا - الايديولوجية
في الإعلام الذي لا ينتمي إلى الإعلام المدني، فإن المرشح الخامس والأخير هو المرشح "الايديولوجي". وسائل الإعلام مؤدبة في نطاق أيديولوجية بيئتها السياسية، غير مؤدبة على الاطلاق خارج ايديولوجيتها. لقد جرى في الواقع إقحام هذه الايديولوجيات داخل النظام الإعلامي العربي، وهذا ما يحيلني إلى الزعم بأننا مازلنا لا نمتلك حتى اليوم إعلاما مدنيا، فقط هي صورة مشوهة من الإعلام المؤدلج. وهذا الإشكال يلقي بتأثيره على الصحافيين، ومحرري وسائل الإعلام، والصورة التي يرى بها الإعلام العالم.
هذه المرشحات تغيب وتظهر، قد يغيب واحد منها وتزداد فعالية الآخر بين فترة واخرى، تختلف البيئة الإعلامية والمؤثرات الاجتماعية والسياسية من تجربة إلى أخرى، فتختلف فعالية المرشحات وتتغاير تبعا لها.
إلا أن وسائل الإعلام تخضع للمرشح الاجتماعي "التأديب الاجتماعي" عبر قنوات أخرى أكثر تعقيدا، إلا أن هذا التأديب يأتيها إما ذاتيا، جراء التفعيل "الاختياري" لأدبيات المهنة تارة، لنا في هذا السياق الاستشهاد بمجمل مواثيق الشرف في الصحافة البريطانية، والتي لعبت دورا مهما في جعل الصحافة البريطانية صحافة مؤدبة لدى البريطانيين على الأقل.
وقد تتأدب الصحافة رضوخا للرأي العام الصاخب تارة أخرى. إلا أن هذا الرضوخ "للعقاب" لا يأتي على استراتيجياتها الإعلامية، فقط قد يصيب إحدى التكتيكات المرحلية لتنفيذ إحدى الاستراتيجيات الإعلامية، ولأن تكتيكات الإعلام المفعلة في صحافتنا المحلية معوقة، فإن الصورة غالبا ما تصاحبها ضجة داخل جسم الصحيفة وخارجها.
"الوسط" مثالا لا نموذجا!
الديموقراطية يفترض أن تحصل على تدفق حر للمعلومات التي لا تقيدها أية مصالح خاصة فيما يهم المجتمع من قضايا، ويتعين وجود إعلام يستجيب لهذه القضايا. في الواقع، يوجد مثل هذا الإعلام. إلا أنه في الغالب مغمور وضيق. لا يمكننا إصدار حكم مطلق بأن إعلامنا غير دقيق أو انه سيء الأدب على الدوام، لدينا شيء من الإعلام الديمقراطي، وصحيفة "الوسط" البحرينية لعبت دورا مهما "كأهم منجز إصلاحي بحريني" على تعديل بعض الشئون الإعلامية في التجربة الإعلامية البحرينية، ما يحيل إلى اعتبار أن مجمل التطور في مستوى الأداء الإعلامي للصحف البحرينية الأخرى، كان ردة فعل طبيعية على تطور العمل الصحافي في صحيفة "الوسط".
هذا طبعا لا يحيل إلى الإعلان أن الوسط تمثل صحافة ديمقراطية مطلقة، ولا توجد في الحقيقة صحافة ديمقراطية مطلقة البتة "هبرماس، بيير بورديو"، إلا أن "الوسط" في مجمل الوضع الإعلامي البحريني تلعب دور الضابط الجديد للإعلام، سواء على صعيد الحرفية أو التوجه ومساحات الحرية.
يذهب هيرمان إلى أن "ثمة صورة من إعلام النخبة تسيطر على وسائل الإعلام بقوة، إذ تقوم وسائل الإعلام اليوم بالتركيز على سوق الأسهم، التي لا صلة لـثمانين في المئة من المواطنين بها بأي شكل من الأشكال"، وبالتالي فهذا الإعلام لا دخل لثمانين في المائة من الناس به.
قدمت لنا قبل أربعة أعوام "نيويورك تايمز" السبب الحقيقي الذي لا يؤهل مرشح الرئاسة الأميركية "رالف نادر" للمشاركة في المناظرات القومية، قالت الصحيفة إن الحزبين الآخرين "يطرحان خيارات كافية" على العامة. كان نادر يعارض الموازنة العسكرية الكبيرة والانتهاكات المتنامية من قبل الشركات الكبرى، ولذلك لم يسمح له بالمشاركة في المناظرات. وهذا خيار النخبة بامتياز. هذا ما يحيل إلى أننا مصابون بإعلام النخبة، وخيارات النخبة.
ويذهب هيرمان إلى أن "ثمة شيئا آخر يمكن للناس فعله إذا كانت تتوافر لهم سبل الوصول إلى الشبكة الدولية "الويب"، وهو أن يقوموا بالتجول هنا وهناك ليبحثوا عن إعلام بديل...". وهذا ما جرى تحديدا للمجتمع الأميركي إبان حرب تحرير العراق، فلقد كانت نسبة المتابعة للقنوات التلفزية والصحف البريطانية داخل الولايات المتحدة تتفوق على المتابعات التي حظيت بها الصحف والقنوات التلفزية الأميركية.
هذا الإعلام البديل قد يكون مؤدبا كما أراد الشيخ عيسى قاسم للصحافة البحريينة أن تكون، هذا باعتماد آخر أكثر أهمية، وهو أن "التأدب" الذي يسعى إليه مطلق العبارة، هو لا يخرج عن المرشحات الإعلامية ضمنيا. فالإعلام الحر المؤدب "فرض من الخيال... لا أكثر ولا أقل..."، وكل ما يخرج عن مصالح المرء، أو اعتقاداته، أو رؤيته السياسية، هو ببساطة إساءة للأدب
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1047 - الإثنين 18 يوليو 2005م الموافق 11 جمادى الآخرة 1426هـ