لا شك أن انتخاب الرئيس الإيراني الجديد، قبل أيام، محمود أحمدي نجاد، نزل في خانة حوادث العام 2005 الدولية. وربما طلع، في النهاية، من أهمها وأبرزها. ولن يكون من المستبعد أن تختاره مجلة "تايم" الأميركية، كشخصية العام وتبرز صورته على غلافها الخارجي. ليس لأن فوز الرجل كان مفاجأة غير متوقعة، أو كان صدمة لجهات عدة، ولا لأنه نبت خارج الحسابات كافة وقفز من شخصية مطمورة، في الحياة السياسية الإيرانية، إلى كرسي الرئاسة؛ خاطفا هذا المنصب من السياسي المخضرم العتيق والنافذ، هاشمي رفسنجاني. بل لأنه، قبل كل شيء، جاء كرمز لإعادة الجمهورية الإسلامية إلى بدايات عمرها؛ بكل ما قد تنطوي عليه هذه الاستدارة إلى الوراء، أو إلى الأصول والينابيع كما يقول الرئيس الجديد، من توجهات ومقاربات وسياسات؛ داخلية وإقليمية وخارجية. فالعالم وتحديدا المنطقة المجاورة، مازال يذكر تلك البدايات، لناحية طغيان التشدد والعزم على تصدير الثورة وما أدى إليه ذلك من انعزال عن العالم. على الأقل هذا هو الانطباع السائد. ولو أنه كان فيه شيء من المبالغة.
ولما كان الاعتقاد الشائع، داخل وخارج إيران، بأن نجاد جاء إلى الرئاسة في قطار سلطة المحافظين التي استنفرت مكنتها الانتخابية بمباركة وإيعاز من المرشد الأعلى - الذي يقال إن ابنه شارك فيها والقائل رفسنجاني وليس غيره - عندئذ يصبح السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل خاض المحافظون المتشددون هذه المعركة وعزموا فيها على الفوز بأي ثمن انطلاقا من ثقة النظام اللامحدودة بنفسه وقدرته على التحدي؛ أم من شعوره باشتداد الحصار عليه ووصوله، داخليا وخارجيا، إلى آخر الطريق المسدود، وبالتالي اختياره التشرنق والتمترس داخل نفسه؛ لأنه لم يعد يأتمن لأحد من غير بطانته؟
وما يزيد من إلحاح هذا السؤال هو أن المرشح المنافس لنجاد - في الجولة الثانية - الذي نزل المحافظون بكل ثقلهم وإمكاناتهم وانضباطيتهم، لهزيمته هو بالذات هاشمي بهرماني، الملقب كما يقال برفسنجاني. فهذا الأخير ابن النظام وأحد كاتمي أسراره. كان في بداية الثورة "المستشار المقرب إلى الإمام الخميني". وتقول مصادر إيرانية إن رفسنجاني كان "الرجل الذي يعتمد عليه الخميني ويستشيره في صغار الأمور وكبارها". كما كان يعطيه سره، وخصوصا في أول عهد الجمهورية. ولأنه كانت له هذه المكانة لدى الأب الروحي للثورة؛ أصبح بعد وفاة هذا الأخير الشخصية رقم واحد في الدولة؛ فاحتل منصب الرئاسة لدورتين متتاليتين. ويقول العارفون إنه كان له الدور البارز في "صنع" خامنئي وثم خاتمي. وعرف دوما بموقعه البراغماتي، الذي سمح له بالإبقاء على الجسور المفتوحة مع الإصلاحيين كما مع المحافظين؛ بحيث صار مع الوقت أشبه بالمرجعية ولو بدرجة أقل من المرشد الأعلى. الأمر الذي وفر له حصانة حفظت له نفوذه ومقبوليته ورفعته إلى رئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام.
ومن هذا الموقع المهم نزل إلى ساحة الترشيح، في الانتخابات الأخيرة. وقيل إن نزوله هذا جاء بمباركة زميل دراسته القديم في قم والمقرب منه بعد الخميني؛ المرشد خامنئي - ويقول العارفون إن اسمه الحقيقي علي بن الجواد الحسيني الملقب بخامنئي - ولهذا ساد الانطباع خلال الأيام التي سبقت الجولة الانتخابية الثانية، بأن الفوز شبه معقود اللواء لرفسنجاني، ولاسيما أن نجاد بدا مرشحا ضعيفا بل هزيلا بالمقارنة مع سيرة وهالة النافذ والمتمرس رفسنجاني.
صحيح أن التشرذم في صفوف التيار الإصلاحي وضعف الثقة عموما برئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام ساهم كله في هبوط نسبة التصويت لصالحه. لكن الصحيح أيضا أنه لو أراد النظام فوزه لكان استنفر مكنته الانتخابية المنظمة والمنضبطة لمصلحته، الأمر الذي لم يحصل؛ والذي بالتالي يشير إلى أن القوى المحافظة النافذة لم تكن قادرة على رؤية رفسنجاني في موقع الرئاسة؛ ولو أن الكلمة الفصل للمرشد وليست للرئيس. فهي اندفعت في الآونة الأخيرة للإطباق على السلطة ومصادرة جميع أجنحتها. قبل أشهر حسمت معركة مجلس الشورى وحصدت أكثريته لمصلحتها. وأمس جاء دور الرئاسة وخطفتها، لتكرس احتكارها لها بالكامل.
رفسنجاني كشف حديثا عن المزيد من براغماتيته؛ أعرب عن قبوله لمشروع الأمير عبدالله الذي طرحه في قمة بيروت، أبدى استعداده للحوار مع أميركا، أشار إلى إمكان البحث في سلاح "حزب الله" بعد تحرير مزارع شبعا، ونسب إليه قوله إنه "لن يكون موظفا في مكتب المرشد بل شريكا له". ولم يشفع له - على ما يبدو - رصيده ودوره وولاؤه. براغماتيته قتلته سياسيا. وإذا كان ذلك يعني أي شيء فهو أن طهران - الحكم - ليست في وارد التعاطي بمرونة؛ لا مع قضايا الداخل ولا مع الملفات الخارجية الساخنة، وعلى رأسها الملف النووي. وتصريحات الرئيس الجديد تؤشر بوضوح في هذا الاتجاه. ثمة استحضار صارخ في خطابه، لطروحات الماضي. ثمة تعويم لنبرة المواجهة وارتداد حاسم على المرحلة الخاتمية ومحاولاتها الإصلاحية الخائبة.
ربما يحسب النظام في طهران أن مثل هذه الانعطافة الحادة والعودة إلى خندق السنوات الأولى للثورة قد تحمل الآخرين على العد للمئة قبل أن يقدم على أية خطوات ضد إيران. فالنظام يعرف أنه محاصر خارجيا ومتعثر داخليا، ولا أوراق لديه على ما يبدو إلا الظهور بمظهر غير الآبه بالتحديات المحيطة به
العدد 1035 - الأربعاء 06 يوليو 2005م الموافق 29 جمادى الأولى 1426هـ