هناك شبه اتفاق على أن لبنان بلد الحريات. فالحريات مقدسة. ولا يجوز المساس بها. إلا أنها مقيدة بشروط تقوم على فكرة احترام قواعد اللعبة. والشرط الأول هو الاحترام وحق المختلف أن يعبر عن رأيه من دون تجاوز الآخر. فالحرية مضبوطة ضمن قواعد متبادلة حتى لو وصل الأمر إلى درجة التكاذب المشترك. فالحرية مكفولة دستوريا ومضمونة قانونيا وشرطها احترام الاختلاف. وحق الاختلاف لا يعني التجاوز أو التعرض للمعتقدات. فالحرية لها أصول والأصل الأول فيها أن حرية هذا الطرف تتوقف حين تبدأ حدود الطرف الآخر. وهذا هو الفارق بين الحرية والفوضى.
الفوضى هي العدو الأول للحرية لأنها تنتهك قواعد اللعبة. ففي لبنان مثلا القانون لا يحمي الطائفي الذي يستغل الطائفية للتشهير بالطوائف الأخرى. فالقانون في جوهره يعتمد الطائفية في توزيع المناصب والوظائف، ولكنه يمنع الطائفية في العلاقات العامة. القانون لا يمنع الطائفية، ولكنه يمنع استخدامها في السياسة الإعلامية. كذلك لا يحمي الطائفي أو المذهبي أو العنصري إذا تجاوز أي منهم حدود الحرية وتهجم أو أهان الجانب الآخر. القانون هنا يتدخل لقمع الطائفي والمذهبي والعنصري لأنه أساء للحرية وتطاول على قناعات جهات تختلف معه في الطائفة أو المذهب أو اللون.
الحريات تعني تنظيم الاختلاف وإعطاء كل صاحب حق حقه بشرط عدم تجاوز حرية الآخر والتعامل مع المختلف ضمن قواعد اللعبة الخلقية والمهنية. فهي نظام علاقات يعتمد مجموعة قيم خلقية ومهنية وليست فوضى تشجع هذا الطائفي على مهاجمة ذاك. ونظام العلاقات هذا استمرت الصحافة اللبنانية تعمل به في أقسى الظروف.
وحين اندلعت الحروب الطائفية "المحلية" والإقليمية استمرت الصحافة اللبنانية تقرأ الخلافات في سياق سياسي وليس طائفيا أو مذهبيا أو دينيا. فالحرب استمرت قرابة ربع قرن ذبح خلالها آلاف اللبنانيين على الهوية الطائفية ولم تنشر الصحف على مختلف منابرها الإعلامية مقالا أو صورة تهين الآخر انطلاقا من نزعة تحض على الكراهية الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو العرقية. فالكلام الحاقد الذي يقال في الشوارع أو الغرف المغلقة غير مسموح نقله ونشره كما هو ومن دون رقابة ذاتية. فالإعلام مضبوط بأخلاق المهنة ويعتمد الحرفية "المهنية" في التعاطي مع القضايا أو في تناول الموضوعات الخلافية.
وبسبب احترام قواعد اللعبة "الحرية مشتركة" استمرت الصحافة تلعب دورها الخاص ولم تتورط في السباب الطائفي أو الشتائم المذهبية أو التطاول على ديانات ومعتقدات وقناعات الأطراف المتنوعة في البلد. فالحرية لا تعطي حق التطاول على ما يراه الآخر "المختلف" يمس قناعاته.
الصحافة في لبنان لا تحمي ولا تدافع عن الطائفية أو المذهبية أو العنصرية، والقانون لا يسمح بذلك، بل العكس تماما. والنقابة تحاسب كل من يخالف قواعد المهنة، أو من ينافي الأعراف. فالقانون ليس من وظائفه الدفاع عن النهج الطائفي أو المذهبي أو العنصري بل يعتبر أن من واجباته منع ذلك.
بسبب هذا المفهوم المتقدم لمعنى الحريات العامة نجحت الصحافة اللبنانية في عدم الانزلاق نحو الفتن واللعب على التعارضات في فترة كان البلد يحترق طائفيا ومذهبيا. فالحرية تبدأ باحترام أخلاق المهنة والالتزام بالقواعد والأعراف الاجتماعية وعدم الانسياق وراء أهواء الشارع أو الكلام الذي يقال في الغرف المغلقة.
هناك شبه اتفاق على أن لبنان بلد الحريات إلا أن ذلك لا يعني الفوضى وإعطاء الحق في التطاول أو التجاوز أو إهانة الآخر في قناعاته أو شكله أو لونه أو طائفته. فالحرية مقدسة ومن شروط قدسيتها احترام حرية الآخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1033 - الإثنين 04 يوليو 2005م الموافق 27 جمادى الأولى 1426هـ