"بالأمس كانوا 4 سلطات، ثم ،5 لكنه - الإنسان - دائما يبحث عن التعقيد، اليوم تأتينا سلطة افتراضية أكثر شراسة وعدوانية، الإنترنت / السلطة السادسة" ثمة دخول مفاجئ للإنترنت والثورة الرقمية على الإعلام، ومن ثم على المجتمع المدني والمجتمع السياسي العربي، ثمة ما يسمى بـ CULTURAL SHOCK "الصدمة الحضارية"، وهذه الصدمة نتجت جراء ما أطلق عليه، انترنتة المفاهيم "NETERNITISM".
لكن السؤال، ما مدى قدرة أي مقاربة معرفية أو ثقافية أو قانونية على سبر الفضاء الإلكتروني؟ ومعرفة تلك النظم التي تمسك بنظام هذا الحقل؟ لا يستطيع أحد منا أن يهمل تلك الأدوار التي تلعبها المنتديات الحوارية والصحف الإلكترونية في المجتمع، إذ إنها أصبحت تلعب دور الفاعل في صناعة القرار السياسي والمجتمعي، ولعلها أصبحت هما رئيسيا لبعض الإعلاميين.
هذه النظم التي ينتجها الفاعلون، قد نبرع في الكشف عنها، وتحليلها، وصولا الى التنبؤ بما تسعى إليه وما تحاول فرضه إجرائيا. إلا أننا عاجزون فعلا عن تحديد آليات الضبط الحقيقية لها، ما يجعلنا في حال من القلق والتهور في تعاملنا مع الفضاء الإلكتروني.
إشكالية الشبكة
في خضم هذا الزخم من التعقيد، علينا التنبه إلى بعض الإشكالات المهمة:
أولا: لابد من مراعاة فارق التوظيف الإجرائي للفضاء الإلكتروني، بين الغرب والشرق، الغرب اعتمد على عولمة الشبكة الإلكترونية بهدف اقتصادي، بعد أن كانت فضاء عسكريا بالدرجة الأولى. أما الشرق، ففيه يتعلق الفضاء الإلكتروني بالمكان الأمثل والآمن للتعبير والمعارضة السياسية والمجتمعية، أو هو فضاء بديل عن الكبت المجتمعي لعدة عناصر مهمة كالحرية الجنسية أو العقائدية. على الأقل اعني الشرق عربيا وإسلاميا.
ثانيا: ثمة الكثير من القوالب الإنترنتية الجاهزة في الاشتغال الأكاديمي الغربي، بمعنى أنه ثمة اكتمال معرفي في دراسة بعض السياقات الانترنتية، بينما تبقى السياقات الشرقية العربية والإسلامية غير مسبرة، وغير مشتغل على تحليلها، وأعتقد انه من المجازفة الإدعاء بأن ثمة سياقات عربية إلكترونية إنترنتية جاهزة ومكتملة.
ثالثا: قد يكون من الصعب الحصول على أرقام إحصاء، ذلك أن النشاط الإتصالي غير منظم جغرافيا، إذ إن ملكية المواقع الإلكترونية العربية تختلف في مصادر تأسيسها، فالكثيرون يذهبون إلى ربط مواقعهم بشركات استضافة أميركية أو بريطانية، لسببين رئيسيين، أولهما انخفاض الكلفة، وثانيا، وجود ضمانة متكاملة بعدم التعرض لأي إغلاق تفرضه السلطات الأمنية في الدول العربية، إذ من المفترض أن تحال محاكمات إغلاق المواقع الى القضاء الأميركي، الذي من الصعب أن يستجيب لمطالبات الحكومات في إغلاق مواقع تحوي فضاءات من التعبير الطبيعي عن الآراء، مهما كانت هذه الحرية خطرة بالنسبة إلى السلطة الكلاسيكية العربية.
قانونية الفضاء
لعل أكثر الأسئلة إحراجا لأي إعلامي أو سياسي أو مثقف، هي الأسئلة الخاصة بالفضاء الإلكتروني، هل يجوز لنا أن نعتبر هذا الفضاء الإلكتروني فضاء قانونيا؟ وهل هو خاضع للسلطة الجغرافية؟ وكيف تنشأ المنتديات اجتماعيا ولماذا؟ وهل هي ذات شخصية اعتبارية؟ وما هو الوضع القانوني لصحيفة إلكترونية، تنشأ في لحظات، وبكلفة لا تزيد عن 50 دولار سنويا؟
ما هي لعبة الصحافة والمنتديات الإلكترونية؟ وهل تعتبر المنتديات الحوارية جسما حديثا في "الصحافة والإعلام"؟ وما هي الإطارات والنظم المحركة للفضاءات الإلكترونية؟ وكيف لنا أن نتجاهل كل هذا، وهي تلعب في أكثر من موقف، دورا سياسيا فاعلا ومؤثرا.
الآراء تذهب الى اعتبار البنية الأساسية للفضاء الإلكتروني هي ملكية خاصة بالولايات المتحدة الأميركية عبر ما يسمى INFORMATION SUPERHIWAY، وهنا يأتي سؤال بسيط "بالغ التعقيد"، هل نحن جميعا في الفضاء الإلكتروني نعيش مواطنة "درجة ثانية" للولايات المتحدة الأميركية، هل فقدت الحكومة الأميركية سيطرتها على الغول الإنترنتي، أم انه تمثيل للقوة الأميركية من دون أن ندري؟
ضبط الافتراض
هل يحتوي هذا الحقل على قانون ضبط، أية سلسلة من التعليمات والأوامر التي تحكم عمله، طبعا إذا قمنا باستثناء الضوابط التقنية وخصوصا بالفاعل المستضيف HOST فإننا أمام صورة بالغة التعقيد:
أولا: هناك اتجاه يرى أن الحقل الإلكتروني يعيش تسارعا كبيرا، يجعل من أي منظومة قانونية، عاجزة عن مجاراة الفضاءات الإلكترونية. وملخص هذا الرأي يذهب الى أن الفضاء الإلكتروني فضاء اجتماعي تقني متسارع، يفوق أيا من النماذج الاجتماعية الفاعلة الأخرى، لا أعتقد انه يحق لنا في الغالب توصيف القائمين على المواقع الإلكترونية بأنهم مسئولون مسئولية كاملة عن محتوى منتدياتهم، فالضبط لهذا المجتمع عملية بالغة التعقيد، والتسارع التقني غير المنضبط بوقت أو أي ضابط زمني يفرض علينا التسليم بأن الأمر "خارج عن السيطرة".
ثانيا: اتجاه آخر، يرى أن المشكلات القانونية التي تطرأ على الحقل الإلكتروني، هي ناشئة عن كون التشريع القانوني للحقل الإلكتروني هو أشبه بالتعدي من قبل حقل الصحافة والنشر الإعلامي التقليدي على الفضاء الإلكتروني المستقل، وهو ما لا يراعي انفصال الحقلين واختلاف آفاقهما، والفاعلين فيهما. لذلك غالبا ما تظهر الصحف ذات توقيت "24 ساعة" عاجزة أمام أي منتدى من المنتديات التي تتبدل محتوياتها كل ثانية، هذا إذا ما راعينا اختلاف البيئة القانونية وقوانين الضبط التحريرية والأدبية في كلا الحقلين.
ثالثا: ثمة اختلاف بين أسبقية القوانين الإنترنتية وبين الحقل الإلكتروني، بمعنى إشكالية التقادم القانوني الإنترنتي، فمن منهما أتى قبل الآخر. العالم تفاجأ بالفضاء الإنترنتي ومن ثم عمل على تنظيمه، كان بعده الأول في الإنطلاقة العالمية، بعدا اقتصاديا، إلا أنه التصق بمفهوم العولمة، وورث الإشكالات ذاتها التي صاحبت ومازالت تصاحب العولمة حتى يومنا الحاضر.
والقوانين الضابطة للفضاء الإنترنتي، تعيش حالا من العجز في التعامل مع ديناميكية النص الإلكتروني، والارتباطات الإنترنتية hyperlinks، hypertext وطبعا لنا أن نتصور أكبر إشكالات الضبط مع فواتح المواقع المغلقة "كوكيز"، إذا أليس إغلاق أي موقع إلكتروني ليس أكثر من "اختبار مقومات الحرفنة الإلكترونية لدى جمهور الإنترنت في الوصول للموقع ذاته بطرق أخرى". بمعنى أن المسألة لا تزيد في الغالب عن استهلاك ما لا يزيد عن دقيقة أو دقيقتي بحث وطلبات مساعدة في المواقع الأخرى المتعاطفة. والتي غالبا ما تساعد في الوصول الى المواقع الممنوعة في "ثوان معدودة".
رابعا: القانون في صفته الإعتبارية يعتبر ظاهرة وجودية، بينما تذهب بعض الآراء الى اعتبار الحقل الإنترنتي، مجتمعا إفتراضيا. في الحقيقة، إن الجزم بافتراضية الحقل الإلكتروني يحمل الكثير من الإشكالات، مثلا، كيف يمكن لنا اعتبار العمليات الاقتصادية والتجارية الكبرى التي تدار عبر هذا الحقل، عمليات افتراضية. كما أن الكثير من الدول الغربية تعتبر الظاهرة الافتراضية مادة رئيسية في قياس الرأي العام، وبالتالي هي مورد مهم في التأسيس لاتخاذ القرارات السياسية، ولا يمكن ان نعتبر امرا بهذه الخطورة، فضاء افتراضيا.
ومن الملاحظ أن جميع مخرجات OUT PUT DIVICES تعتبر ظاهرة وجودية كاملة وفاعلة. قد نعتبر "المقالة الإنترنتية"، ظاهرة افتراضية، لكننا حين نقوم بطباعتها فإنها ذات حضور وجودي وفاعل، كما أن الموضوعات الإنترنتية الافتراضية حين تتصدر "أعمدة الصحافة" فإنها ليست وجودا افتراضيا. بل هو عين الواقع، في الحقيقة، إن إغلاق المواقع الإلكترونية هو تحديدا أكبر دلالة مادية على أن الحقل الإلكتروني ليس افتراضيا البتة، إلا في وعائه الحامل من أسلاك تليفونية.
يتضح لنا في رأي الكثير من الباحثين الأميركيين، إنحيازهم الى الاعتماد على إشكالية "الوقت"، فالبحاثة الأميركييون يعتمدون على الاعتقاد الأمبريقي، أي أن الحقل الإلكتروني، يتصف بالقهر الزمني، فلا نستطيع تحديدا التحكم في دراسة أبعاده الحقيقية، ونبقى معتمدين في المطلق على دراسات معرفية أو امبريقية عاجزة عن إنتاج توصيف كامل ومقبول للحقل الإلكتروني.
لنا أن نعتبر الفضاء الإلكتروني أحد إشكالات العولمة التي من الصعب أن نحاول تفسيرها، ففي العام ،1996 بدا موقع تحت اسم www.dole.69org أنه الموقع الرسمي لبوب دول المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية. فأي مراقب عرضي من شأنه ألا يكون قد لاحظ أنه في حقيقة الأمر موقع تهكمي وليست له أية علاقة بالحملة الدعائية لبول.
لا يستطيع شخص أن يعرف بواعث مصمم هذا الويب تحديدا، ولكن المستفاد من الحادثة هو أن الهدف الإجرائي هو استخدام معلومات مضللة للتأثير على الناخبين. والشأن السياسي الخليجي حافل بأمثلة تلك "الحيل/الإشاعات" وفي الغالب فليست هناك مسئولية اعتبارية ضد أحد، لأن المواقع في الغالب لا توافر مفاتيح حقيقية ومباشرة للتعرف على هوية أصحابها.
أكثر ما يميز هذه السلطة السادسة "الإشاعات" التي تخرج كحقيقة مسلمة لا جدال فيها، وهي "إشاعات" قد تحمل الأمل للناس بالحرية او السعادة، او بمزيد من الكبت والدكتاتورية أو اليأس.
وفي بعض الأحيان قد تحمل معها الإيذاء والتعرض لخصوصيات الأفراد "اتهامات الرشوة، العمالة، التآمر"، إلا أنها أيضا، قد تحتوي بعضا من الفكاهة التي نختم بها هذا المقال، فخلال مناظرة جرت في ولاية نيويورك، سأل الحكم المرشحين المتنافسين هيلاري كلينتون وريك لازيو عن رأيهما في "مشروع القانون 602أ"، الذي وصف بأنه اقتراح لهيئة الخدمات البريدية بفرض ضريبة قدرها 5 سنتات على كل رسالة إلكترونية ترسل على الإنترنت.
أبدى كل من هيلاري ولازيو معارضة شديدة لمثل تلك الضريبة. ولكن لم يكن هناك في واقع الأمر مشروع قانون مثل ذلك. وبررت محطة التلفزيون التي استضافت هذه المناظرة مشروعية سؤالها عبر تلقيها السؤال بالبريد الإلكتروني استجابة إلى مناشدتها المشاهدين بأن يبعثوا إليها بآرائهم.
وجد السؤال طريقه إلى المناظرة حتى على رغم أن هيئة الخدمات البريدية كانت قد أصدرت بيانا في مايو/ أيار 1999 تقول فيه إن مشروع القانون هذا هو من "صنع الخيال".
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1020 - الثلثاء 21 يونيو 2005م الموافق 14 جمادى الأولى 1426هـ