حينما وقف رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان يصافح الرئيس الأميركي جورج بوش أمام عدسات المصورين، لم تكن ابتسامتهما تعكس حقيقة مستوى العلاقات الأميركية التركية. ونقل عن عدد من المستشارين من البلدين الذين يقرون بوجود توتر على هذه العلاقات أن الجانب التركي أوشك أن يرجو واشنطن للحصول على هذا اللقاء! ولكن واشنطن رفضت على مدى شهرين كاملين منح أردوغان موعدا في البيت الأبيض. كما كانت هناك فكرة بعدم دعوته إلى واشنطن. واستغلت واشنطن علاقاتها مع عدد من دول المنطقة لتبلغ تركيا بصورة غير مباشرة أن الولايات المتحدة تستطيع تحقيق مصالحها في المنطقة من دون عون تركيا.
وحين زار رئيس الوزراء اليوناني كارامنليس واشنطن، قيل له إن اليونان أهم حليف للولايات المتحدة في منطقة البلقان. كما وعدت إدارة بوش الرئيس الأفغاني حميد كرزاي بإقامة تحالف استراتيجي مع بلده، وهو ما لم تعقده الولايات المتحدة أو تعرضه على حكومة أنقرة.
ومنذ أن رفض البرلمان التركي في مطلع مارس/ آذار 2003 السماح للأميركيين استخدام الأراضي التركية للزحف نحو شمال العراق، ساد توتر واضح في العلاقات بين البلدين. وحتى بعد اسقاط الأميركيين نظام صدام حسين، فإنها لم تغفر للاتراك فعلتهم تلك حتى اليوم.
وبالنسبة إلى مخططي حرب العراق بوزارة الدفاع الأميركية فإن الخطوة التي قام بها البرلمان التركي أزعجتهم كثيرا ومازالت إلى اليوم. ويقولون إن قطع الطريق على القوات الأميركية لفتح جبهة الشمال منح المتمردين في العراق الوقت الكافي لتنظيم أنفسهم استعدادا لمواجهة الجنود الأميركيين، ما كلف ثمنا باهظا يدفعه الجنود بحياتهم حتى اليوم. كما أن الرأي العام في تركيا أصبح بغالبيته مناهضا للولايات المتحدة بعد الغزو. وحين اقتحمت القوات الأميركية مدينة الفلوجة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وعرض التلفزيون التركي صورا ظهر فيها جندي أميركي يطلق النار على جريح عراقي داخل أحد مساجدها، خرج أعضاء في الحزب الإسلامي الذي ينتمي إليه أردوغان عن صمتهم وقالوا إن الولايات المتحدة تنفذ حرب إبادة في العراق، بينما شبهت بعض الصحف التركية بوش بهتلر.
العاصفة المعدنية
تجاهل الولايات المتحدة لتركيا أثار حفيظة الكثيرين في تركيا. ويتحدث معلقو كبريات الصحف التركية عن مؤامرة تستهدف بلدهم يحيك خيوطها المحافظون الجدد في واشنطن، الذين يعتقد أنهم أصبحوا يرون تركيا بلدا إسلاميا يهدد المصالح الأميركية في المنطقة. ويعكس مدى تحول نظرة الأتراك للعلاقة مع واشنطن الرواج الكبير لكتاب يحمل عنوان "العاصفة المعدنية"، وهو عبارة عن رواية خيالية لكنها تنتهي بغزو أميركي لأراضي تركيا كما حصل في العراق.
وسجلت واشنطن في الآونة الأخيرة ازدياد التعليقات الناقدة لها في الصحف التركية، كما استاء الأميركان من نص وزع على أئمة المساجد ينتقد ويدين المبشرين المسيحيين، وهي هنا جماعات التبشير الإنجيلية الأميركية التي تعمل في التبشير في عدد من الدول العربية والإسلامية، وإلى حد الترغيب، بالحصول على تأشيرات دخول الأراضي الأميركية في حال تخلي المسلمين عن دينهم واعتناق المسيحية.
كل هذه الأمور مجتمعة نشأ بسببها سوء فهم وتوتر جعل كل طرف يعتقد أنه ليس هناك أمل بقيام شراكة استراتيجية. في التسعينات كانت الولايات المتحدة وتركيا متفقتين على أبرز القضايا السياسية الدولية. فالبلدان تدخلا معا عسكريا في البلقان، وأيدا عملية السلام في الشرق الأوسط بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، ووقفا معا ضد صدام حسين. لكن منذ أن بدأ بوش يعمل بسياسة التدخل العسكري في منطقة الشرق الأوسط والسعي إلى تغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية وفقا لتصورات المحافظين الجدد، بدأ القلق ينتاب أنقرة التي باتت تخشى انتشار الفوضى وعدم الاستقرار في البلدان المجاورة.
في هذا الوقت ظهر كتاب جديد في تركيا يحمل عنوان "العمق الاستراتيجي" أثار اهتمام واشنطن كثيرا. مؤلف الكتاب هو مستشار السياسة الخارجية لرئيس الوزراء التركي، أحمد دافوتوغلو، يكشف فيه ضرورة عقد تركيا صلات جيدة مع كل الدول الجارة بحكم موقعها الجغرافي بين أوروبا وآسيا والقوقاز والشرق الأوسط، بما فيهم إيران وسورية، اللتان تصفهما واشنطن بالدول المارقة. وسجلت واشنطن بقلق التقارب الأخير بين تركيا وإيران عقب زيارة أردوغان إلى طهران وزيارة الرئيس التركي سيزار إلى سورية. وفي سياق تبرير مؤلف الكتاب السياسي المهم لعلاقات بلاده المتعددة الأبعاد للسياسة الخارجية التركية، قال دافوتوغلو إن الحدود التركية السورية تمتد مسافة 800 كم، وسورية طريق الصادرات التركية الوحيد إلى بلدان الخليج والأردن ودول أخرى في الشرق الأوسط.
هذا ويشعر الأتراك بعدم رغبة دول الاتحاد الأوروبي بهم عضوا في "نادي المسيحيين"، وهو ما دفع بالبعض للتفكير في طريق آخر. ويزيد هذا الشعور في صفوف أركان الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا، وذلك بالتعويض عن الشراكة مع الغرب بالسعي إلى الحصول على نفوذ في العالم الإسلامي، والقيام بتقارب مع قوى كبيرة أخرى مثل روسيا والصين والهند. ونموذجا لتطور المجتمع يرى دافوتوغلو دولة إسلامية شبه ديمقراطية مثل ماليزيا نموذجا بديلا لأوروبا. ويرى الأميركان أن مثل هذا التفكير يخيب أملهم لأنهم صنفوا تركيا بعد هجوم 11 سبتمبر/ أيلول دولة ديمقراطية نموذجية داخل العالم الإسلامي وأحد أبرز حلفائهم في المنطقة. لهذا السبب ضغطت واشنطن على الاتحاد الأوروبي لفتح باب العضوية أمامها.
على الصعيد الرسمي لا تلعب مثل هذه الأفكار أي دور حاليا في السياسة الخارجية التركية. والمسئولون في حكومة أنقرة يؤكدون متانة العلاقات القائمة مع الاتحاد الأوروبي ومع واشنطن، ولهذا توجه أردوغان إلى واشنطن بعد طول انتظار للحصول على موعد للقاء بوش، سعيا لتجاوبها مع بعض المطالب التركية الملحة وفي مقدمتها القيام بجهود أكثر لوقف الهجمات التي يشنها مقاتلو حزب العمال الكردي على أهداف داخل الأراضي التركية وخصوصا أنهم يتسللون من مناطق في شمال العراق. فوفقا لبيانات الحكومة التركية، هناك 1500 مسلح منهم ينشطون داخل الأراضي التركية ونحو ألف يحاولون التسلل عبر الأراضي العراقية. ويعترف مسئولون في واشنطن أنه لم يجر حتى اليوم معالجة هذه القضية. هذا وتدرك واشنطن أن حكومة أردوغان قبلت الواقع العراقي الجديد بمجيء حكومة منتخبة في بغداد مع حكم ذاتي للأكراد في الشمال مادام ذلك يحول دون قيام دولة كردية مستقلة
العدد 1013 - الثلثاء 14 يونيو 2005م الموافق 07 جمادى الأولى 1426هـ