العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ

التشويش على العقلانية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في 26 مايو/ ايار الماضي ظهرت مشكلة "سور المالكية" إلى العلن واصبحت قضية رأي عام. وعلى مدى الاسابيع اللاحقة وصولا الى يوم الجمعة 10 يونيو/ حزيران الجاري تابعنا سيناريو بحريني صميم يعكس ذلك الصراع بين الصواب والخطأ في حركة المجتمع منذ 3 سنوات تقريبا. الفارق بين الاسلوب الامثل والاسلوب الخطأ. انه سيناريو تكرر على مدى الاعوام الثلاثة الماضية اكثر من مرة وفي اكثر من قضية.

فخلال الاسابيع المنصرمة حظينا بفرصة متابعة اسلوب نموذجي في التعامل مع قضية مثل قضية سور المالكية تتصل باحترام القانون وسيادة القانون. لكن هذا المسار العقلاني لتحرك الاهالي والرأي العام عموما، تعرض لمحاولة لحرفه الى الاتجاه الخطأ وتدمير كل المكاسب الحقيقية التي اثمر عنها الاسلوب العقلاني والسلمي في حركة الاحتجاج باكملها.

يكفي للاستدلال على محاولة حرف الاتجاه هذه، استعادة سيناريو الحوادث نفسه الذي بدأ منذ السادس والعشرين من الشهر الماضي وصولا حتى الجمعة 10 يونيو/ حزيران الجاري.

اثار النائب جاسم عبدالعال القضية على الملأ وامام الرأي العام في 26 مايو/ ايار. ومنذ ذلك التاريخ استمرت مطالبات الاهالي وبدأت تعليقات الكتاب في الصحف المحلية بالتعاطي مع الموضوع وصولا الى الزيارة الميدانية لوزير البلديات والبيئة علي صالح الصالح لقرية المالكية واجتماعه مع الاهالي ومعاينة المشكلة على الارض.

في 8 يونيو/ حزيران اعلنت الوزارة موقفا صريحا اكد عدم "قانونية الجدار" او "الجزء موضع الاعتراض منه. وفي اليوم التالي 9 يونيو/ حزيران كتبت الصحف ان "جلالة الملك وجه وزارة البلديات والزراعة إلى تطبيق القانون، واتخاذ جميع الإجراءات القانونية فيما يخص قضية "سور المالكية" مشيرا إلى أن القانون يجب أن يطبق على كل كبير وصغير من دون استثناء، والمخالف يجب أن يحاسب". "الوسط 9 يونيو/ حزيران".

ها انتم ترون كيف ان التعامل العقلاني وبالاساليب القانونية اثمر بالنهاية طالما ان الجميع يحتكم الى القانون، لكن في اليوم التالي الذي شهد مهرجانا لدعم قضية البيئة شاركت فيه جمعيات سياسية واعضاء مجالس بلدية ونواب وحظي بدعم شركات كبرى، كان علامة اخرى على هذا النهج العقلاني في التعاطي مع قضية كهذه تتعلق بالحق العام.

لكن هذا النهج لا يراد له ان يكتمل ويستمر ويترسخ بل لابد من حادث يأتي للتشويش عليه، اي للتشويش على طريقتنا العاقلة والمسئولة في التعامل مع أية قضية. لم تتأخر المحاولة كثيرا. ففي الوقت الذي كان المهرجان البيئي يسير على افضل ما يكون، فجأة ومن دون اي توقع يخرج نفر قليل من الذين تجمعوا في تجمع احتجاجي لاهالي القرية ويتجه نحو السور لهدمه او إحداث ثغرة فيه. حلت اليد مكان العقل. والأكثر يقوم البعض برشق سيارة للشرطة بالحجارة وتطالعنا الصحف في اليوم التالي بان رجلي امن اصيبا بجراح جراء ذلك.

ان سألت الاهالي عن هؤلاء الذين اخذوا زمام المبادرة وقادوا بعض الناس الى محاولة هدم السور او الذين رشقوا سيارة الشرطة بالحجارة سيردون بانهم ليسوا من القرية.

والنائب عبدالعال سماهم في بيان نشره في اليوم التالي "فئة صغيرة مندسة". وفي قلب الحادث نفسه، بذل الشيخ علي سلمان كالعادة جهودا لاحتواء الوضع ولربما يدرك اكثرنا ان من قام بمحاولة هدم السور وقذف الحجارة قد يكون فعلا من المندسين، لكن المعنى الوحيد الباقي لعموم الناس هو ان الحركة الاحتجاجية العقلانية الملتزمة بالقانون اثمرت اخيرا تعديا على رجال الشرطة واستبدالا للعقل باخذ الحق باليد.

انها حركة احتجاجية نموذجية ظلت ملتزمة بروح القانون، لكن اذ تقرأون هذه السطور سيتذكر اكثركم مناسبات لا تحصى لمثل هذه المحاولات للتشويش على الاسلوب العقلاني في حركة الاحتجاج.

سنتذكر المرات التي كنا نتمنى لو ان المحتجين اختاروا مكانا غير الذي اختاروه. او ان يقفوا قبالة مبنى وزارة العدل بدلا من سد المدخل الرئيسي للوزارة. او ان لا يتسببوا باغلاق مفترق طرق رئيسي وحيوي لحركة المرور ويعطلوا الاف السائقين في الشارع. واذا تساءل بعضنا مثلا عن اولى الاحجار التي انطلقت باتجاه مطعم مكدونالدز في ابريل/ نيسان 2002 لن تسعفه الذاكرة، فاستثارة هياج المحتجين في الشارع عملية تنطوي على غموض دوما: من قذف اول حجر على سيارة الشرطة في المالكية؟.

المسألة تتعدى احتواء انفلات عفوي للعواطف لان حوادث مثل هذه يتم قراءتها على نحو مختلف تماما لما نفكر فيه. انها تقرأ على النقيض من كل ما تمثله حركة الاحتجاج منذ بدايتها، اي نقيض طابعها السلمي وعقلانيتها والتزامها بالقانون.

في مثال المالكية سيطرح الامر نفسه على اهل القرية المحتجين على هذا النحو: هل هم مستعدون لخسارة المكتسبات التي حققوها بعقلانيتهم وتمسكهم بروح القانون والطابع السلمي لاحتجاجهم ام انهم مستعدون للمجازفة بفقدان هذا كله بسبب "فئة صغيرة مندسة" وعمل طائش لا مبرر له على الاطلاق؟.

السؤال نفسه ظل يلوح امام البحرينيين جميعا طيلة الاعوام القليلة الماضية والامل ان يقدم اهل المالكية نموذجا آخر لحركة احتجاج مدني سلمية وعقلانية وملتزمة بروح القانون والاحساس العالي بالمسئولية

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً