العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ

وجه من عبقرية الهنود

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

هل الهند تريد أن تلحق بالصين وتتفوق عليها، وهي الدولة المحاذية لها وكثيرة الخلاف معها؟ أم تريد أن تتفوق على الباكستان وهي أيضا دولة مجاورة وبينها وبين الهند قضايا عالقة منذ دهر من السنين؟ أم أن الهند تريد اللحاق بالغرب ما بعد الصناعي، بعد أن تهيأت لها أسباب امتلاك التقنية الحديثة والتنمية المتسارعة؟ تلك المقولات التي يتناولها الكتاب نقاشا كل من زاويته، كلما تناولوا الشأن الهندي.

أيا كانت النوايا، فإن الهند تتصرف إعلاميا بذكاء يلفت النظر، وهو الموضوع الذي أريد أن أتناوله هنا. الفكرة التي أوحت لي بهذا التناول هو مشاهدتي فيلما سينمائيا طويلا ناطقا بالإنجليزية، على شاكلة أفلام هوليوود الكبيرة، وهو إنتاج هندي أميركي مشترك، يحمل عنوان "زوج وتعصب"، يعرض في صالات العالم المختلفة هذه الأسابيع التي تسبق الصيف، أو هي من بشائر الصيف. العنوان ملعوب عليه لفظا من عنوان قصة شهيرة للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز "اعتزاز وتعصب"، والكلمتان "زوج" و"اعتزاز أو فخر" متقاربتان بالإنجليزية.

قصة الفيلم شبه تقليدية، فهي قصة حب، ولكن البيئة التي تدور فيها القصة، هي بيئة المهاجرين الهنود في أوروبا وفي الولايات المتحدة، الذين يعود شبابهم إلى الهند باحثين عن زوجة مناسبة، متسلحين بالثروة والمال لإغراء الصبايا وعائلاتهم بالتغريب والسفر، إذ إن الزوجة الغربية لا تناسب "عادات وتقاليد" يريد أن يحتفظ بها الشباب الهندي في المهجر.

إلا أن المشكلات المختلفة التي تظهر بين عائلات البنات المرشحات للزواج، وخصوصا الأمهات اللاتي يرغبن في تزويج بناتهن أزواجا مرتاحين ماليا، وبين عنفوان البنت المتعلمة التي ترفض أن تباع في سوق المزايدات، يتصاعد الصراع السينمائي وتتطور الحبكة لتتيح للمشاهد المقارنة والمقاربة لما يريد الفيلم أن يقول، وهو يريد أن يقول الكثير عن الهند البلد... والهند البشر.

القصة ليست هي المهمة، ولكن المهم والذي لفت نظري، وأعتقد أنه المقصود كليا بالفيلم السينمائي هذا، هو تقديم الثقافة الهندية المعاصرة على أنها ثقافة حديثة اختلفت عما كانت عليه في السابق، فهذه البلاد الواسعة ذات الثقافات المتعددة، استطاعت أن تنشئ طرقا للعيش المشترك بين أبناء الهند بشكل مسالم وناجح على رغم التعددية العرقية والمذهبية والدينية واللغوية، وفي هذا المقام لم تعد التقاليد الهندية الأسرية السابقة والتي كانت لها ممارسات سلبية مثل تزويج البنات الصغار، أو السماح بـ "انتحار" الأرملة بعد وفاة زوجها، أو بفرض التراتب الاجتماعي الفظ بين فئات الناس، لم تعد كل تلك الممارسات موجودة أو مقبولة، وأن المجتمع الهندي قد دخل العولمة محتفظا بأفضل ما لديه من قيم، متخلصا من الممارسات والقيم القديمة غير المناسبة. إنه مجتمع عصري تتصرف فيه البنات كما يتصرف فيه الرجال بحضارية، ربما تفوق الحضارية الممارسة في بعض قطاعات المجتمع الغربي.

الموسيقى والرقصات الهندية التقليدية الجميلة كانت هي الخلفية التي قام عليها الفيلم للتشويق، وسعت هذه الخلفية لإشباع المتعة البصرية والسمعية للمشاهد.

أما الرسالة السياسية في الفيلم فلم تكن بعيدة عن اكتشاف المتابع الفطن، فالحوادث أو جزء منها، تنتقل من مناظر السياحة في بلد جميل مثل منتجع كيرلا الهندي، إلى منطقة مهمة وحساسة هي معبد بابري الذي يأتي ذكره في نسيج الفيلم، وهو المكان الذي دار حوله صراع بين مسلمي الهند والهندوس في سنوات ماضية، وكلف ذلك الصراع الهند كثيرا من رأس المال السياسي، ثم إلى مدينة لندن وغرب الولايات المتحدة، فهو فيلم مصمم لمشاهد عالمي.

خلفية الصورة والرسالة الأعمق، أن فيلما سينمائيا جديا قد يغني عن الكثير من الكلام والترويج لبلد أو لفكرة، وهذا ما فعله هذا الفيلم بالضبط للهند، وهو الترويج المتميز للهند الجديدة، الأمر الذي لم تنتبه بعد إليه الثقافة العربية للاستفادة من هذا الوسيط الرائع "السينما"، الذي يمكن أن يغير صورة نمطية لشعب من الشعوب، ويقلب الأفكار الثابتة السلبية لدى البعض إلى عكسها عند الجمهور المتلقي.

في زيارة لإيران قبل سنوات كان اللقاء المقرر مع ناطق نوري، وكان وقتها رئيسا للبرلمان الإيراني، والذي كان مرشحا أمام محمد خاتمي في الدورة الانتخابية الأولى التي خاضها خاتمي. قال لنا في اللقاء، ونحن مجموعة من العاملين في الثقافة، قال: "إن فيلما سينمائيا جيدا خير من مئة خطيب مفوه"!

أردت أن أشير إلى قول ناطق نوري، كي أصل إلى النتيجة المنطقية وهي أنه "وهو المصنف من المحافظين" قد انتبه إلى أهمية هذا الوسيط "السينما" لإرسال الرسائل في عالم اليوم، الذي يوصف إنسانه بأنه متلق سريع للإشارات البصرية، وقد تقنعه هذه الإشارات خيرا من ألف كلمة بليغة.

لهذا السبب فقد كسبت إيران على هذا الصعيد الكثير من الأرض الإعلامية الدولية، ولعلي أشير هنا إلى فيلم سينمائي إيراني كسب أكبر جائزة سينمائية في مونتريال أخيرا، وكان عنوان الفيلم "لون الجنة". ويعمل السينمائيون الإيرانيون بأدوات بسيطة غير معقدة، بل إن بعضهم لا يملك أكثر من كاميرا وبضعة ممثلين، ولكنهم يملكون الأهم، وهو الفكرة التي تجلب المشاهد.

وفي مجال آخر، فإن الأفلام القليلة التي أنتجها السينمائيون الفلسطينيون، بشكل جاد وحديث، قد وضعت القضية الفلسطينية على بساط البحث العالمي، أكثر مما فعلته آلاف التظاهرات العربية التي تجوب شوارعنا حاملة الشعار الأبله "بالروح بالدم..."، وهو شعار غبي على كل حال.

لقد بدأ بحث القضية الفلسطينية على صعيد جدي بعد أن أنتج ووزع الفيلم الجديد "الذي يعرض حاليا في دور السينما العالمية" وهو فيلم "مملكة الجنة"، الذي يتحدث عن الصراع على فلسطين إبان الحروب الصليبية. ولقد ناقشته الصحافة العربية بتصورات متناقضة، بعضها مادح والآخر قادح، إلى درجة تسفيه الممثل العربي الذي قام بدور صلاح الدين، ولكن الأهم أن "مملكة الجنة"، طرح من جديد على ملايين المشاهدين قضية ساخنة هي القضية الفلسطينية، بأكثر مما استطاع الإعلام العربي مجتمعا منذ قيام دولة "إسرائيل" أن يفعل، على رغم كل الصياح من الحناجر!

الفن السابع في بلادنا العربية، أصبح في أحسن أحواله قصصا تمثل على الشاشة مكررة، تخاطب الغرائز، وتعزز من القيم الخاملة، ونخاطب بعضنا بعضا من خلالها في بله شديد، حتى أفلام السينما المصرية التي كانت شبه رائدة لم تعد لها ريادة اليوم في عالم العولمة المزدحم بالتنافس. بل إن إنكار الكثير منها بأنها مكررة تعزز من قيم سلبية، هو الرأي السائد لدى المتابعين والمعلقين السينمائيين الجادين.

ترى هل تخلفنا عن الاستفادة من قدرة هذا الفن الرفيع على التأثير وتقديم قضايانا من خلاله، ليس بطريقة مباشرة فجة، ولكن بطريق هذا الفيلم الهندي العالمي الذي وصفت، هل هو بسبب عدم قناعة لدى كثير منا بأهمية هذا الفن وتأثيره، أم هو عداء للفن الجميل متأصل في ثقافتنا، أم هو في الأصل قصور رأس المال العربي عن القيام بمهمته في هذا المجال؟

عندما أشاهد هذا الكم الهائل في التسابق لإنشاء الفضائيات العربية أسأل نفسي: ترى ما الذي جعل رأس المال العربي يسعى جاهدا في هذا المجال، ولا يتلفت إلى وسيلة هي في عطائها الحضاري أكثر وأكبر؟

أنها أسئلة أرجو أن أسمع من بعض المهتمين من أهلنا إجابة عنها أو مشاركة بشأنها

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً