فجر الموقف الراهن من الفيدرالية الكردية المقترحة، المزيد من الخلافات بين اطياف الحكومة العراقية الحالية والجهات التي تمثل هذه الحكومة، وهما قائمتا الائتلاف الموحد وقائمة التحالف الكردستاني.
ويشكك الاكراد في نوايا الائتلاف الموحد تجاه تنفيذ الاتفاق الذي تم بين القائمتين اثناء المداولات التي جرت بين ممثليهم بشأن قضية الفيدرالية الكردية حينها اتفق الطرفان على اعتماد "قانون ادارة الدولة العراقية" الذي ثبت من الفيدرالية لكن هذا القانون لم يفسر نوع الفيدرالية المطلوب اعتمادها، لذلك فإن حسم هذا الموضوع سيخضع إلى نقاشات وحوارات قد لا تفضي إلى اتفاق او نتيجة معينة، كون الاكراد مصرين على أن تكون الفيدرالية قومية وخصوصا باقليم كردستان بعد ضم مدينة كركرك وعدد من المدن والبلدان الصغيرة الأخرى حول الموصل وكركوك إلى هذا الاقليم.
وتعارض قائمة الائتلاف هذا النوع من الفيدرالية وتطرح البديل عن ذلك بفيدرالية جغرافية وإدارية تشمل العراق جميعه مع ضمانات باحترام سيادة ووحدة التراب العراقي.
ويبدو أن عملية "التخويف" التي يحاول القادة الاكراد اعتمادها من خلال تصريحاتهم والتي تحذر الجانب العربي من مغبة التراجع عن مطلب الفيدرالية القومية للأكراد لم تعد تزعج قائمة الائتلاف - بعد ان جرت مراضاة بين حكومة الجعفري والجانب الاميركي، والتي تكللت أخيرا بزيارة كوندليزا رايس، التي وفرت للجعفري غطاء سياسيا داعما.
كما وان حال الضعف السابقة التي عطلت تشكيل الحكومة الراهنة والتي تطلبت تقديم تنازلات من جانب قائمة الائتلاف للطرف الكردي بعد أن امتنعت قائمة علاوي عن التحالف مع قائمة الائتلاف، قد تبددت الآن، ولم يعد الائتلافيون الذين يسيطرون حاليا على أهم مرافق الدولة، وخصوصا قطاعي الأمن والجيش مكترثين بأي تهديد من الاكراد، فيما اذا اصروا على موقفهم تجاه الفيدرالية الجغرافية والإدارية.
وصرح زعيم المجلس الأعلى للثورة الاسلامية عبدالعزيز الحكيم، بأن قائمة الائتلاف سوف لن تتراجع عن مطلبها في ايجاد فيدراليات عدة لكل العراق، وليس لمنطقة واحدة، وهذه الفيدرالية ستكون على أساس جغرافي وإداري وليس على أساس قومي.
واذا حاولت القيادات الكردية التشبث بموقفها، في حال عدم اقرار الفيدرالية القومية، واتخذت اجراءات معينة، من قبيل الانسحاب من الحكومة أو مغادرة العملية السياسية أو اعلان الاستقلال عن المركز، فإنها ستخسر كل شيء لأن الرأي العام العراقي عموما ضد مبدأ الفيدرالية القومية، لسبب بسيط، وهو ان هذا النوع من الفيدراليات يحمل معه بذرة الانفصال عن العراق في المستقبل، وهذه قضية تزعج العراقيين، ولا تتعلق بالائتلافيين الشيعة وحدهم، وانما بجميع الأطياف العراقية العربية الأخرى.
وعموما فإن المزاج العربي العراقي، وايضا التركماني والمسيحي وبقية الطوائف الاخرى يقف ضد الفيدرالية القومية، ولن يكون الأمر بهذا القدر من السهولة بالنسبة لحكومة الجعفري أو أية حكومة قادمة لاقرار الفيدرالية القومية.
لكن مقترح الفيدراليات الجغرافية والإدارية لعموم المدن والمحافظات العراقية قد يحظى بموافقة العراقيين، لأنه ربما لا يخرج عن اطار المغامرة بوحدة التراب العراقي ومستقبل هذا البلد.
وانطلاقا من هذه القضية، بدأت في جنوب العراق حركة بين تيارات سياسية مختلفة، ترعاها قائمة الائتلاف الموحد في التحضير لعقد المؤتمر الثاني لمناقشة إعلان مناطق الجنوب أقاليم فيدرالية تخضع كلها لاقليم "سومر" الفيدرالي الذي من المؤمل أن يضم ثلاثة فيدراليات، الأولى تشمل محافظة ميسان "العمارة" ومحافظة ذي قار "الناصرية" ومحافظة البصرة، والثانية تشمل محافظة واسط "الكوت" ومحافظة القادسية "الديوانية" والسماوة، والثالثة تضم محافظة بابل "الحلة" وكربلاء والنجف.
ويبدو ان هذه الفكرة بدأت تجد لها مؤيدين في أوساط اهالي الجنوب الذين يعتقدون بأن فيدرالية اقليم الجنوب تتماشى مع منطق الفيدرالية الجغرافية والادارية، وان هذا الجزء من العراق لديه خصائص مشتركة، فهو فضلا عن انتمائه لطائفة واحدة هي "الطائفة الشيعية"، فإنه كان على مر العصور والازمان يشكل وحدة حضارية وثقافية مشتركة، ويصر اهالي هذه المنطقة على انهم ورثة الحضارات القديمة، السومرية والاكدية والبابلية، لذلك يمثل معظم التيارات المنادية بفيدرالية الجنوب. اطلاق اسم "سومر" على اقليمهم المقترح، لاعطائه زخما حضاريا متميزا. والواضح أن لدى أهالي الجنوب نوعا من ردة الفعل التاريخية التي بدأت تتبلور بعد هذه المخاضات الكثيرة، إذ يسعون لاستعادة ارتباطهم بالحضارات القديمة، بعد ان تعرضوا لحملات واسعة من التهميش والانتهاكات على مر التاريخ الحديث، ودافعهم من وراء ذلك، اثبات هويتهم الحضارية العريقة.
قد يبدو من خلال العودة للالتصاق بالسومريين، ان اهالي الجنوب يتجاهلون الحضارة العربية الاصلية التي نشرها اهل العراق في عموم المعمورة، بعد أن انتقلت معظم الاصول القبلية العربية من شبه جزيرة العرب إلى وادي الرافدين، واستوطنت في هذه البقاع واقامت واحدة من اهم الحضارات الانسانية في العالم القديم، ولكن التشبث بالبعد السومري لا يمكن ان يضعف الانتماء العربي الاصيل لمعظم أهالي العراق وخصوصا أهالي الجنوب.
ويحاول الساسة إعادة مجد "سومر" إلى واجهة المشهد السياسي العراقي الراهن، بعد ان مضى على هذا المجد نحو خمسة آلاف سنة وما يزيد، ولكن هل بإمكان هؤلاء الساسة اقناع قطاعات الشعب العراقي جميعا بمشروعهم هذا؟ فهناك ايضا اراء واسعة تقول إن اضفاء هيبة "سومر" المحببة لدى العراقيين، لا يمكن ان تغطي الابعاد الخطيرة التي يتخوف منها العراقيون، بتقسيم العراق إلى اقاليم في الشمال واخرى في الجنوب وثالثة في الوسط، وان رأي هؤلاء الناس يؤكد أن الديمقراطية نظام قادر على حل جميع الإشكالات القومية والاثنية والحقوقية، بدلا من التفكير بتقطيع العراق إلى اجزاء واقاليم فيدرالية، قد لا تحافظ على انتمائها للعراق اثناء اندلاع الخلافات العريقة بين التيارات السياسية المختلفة في المستقبل
العدد 1003 - السبت 04 يونيو 2005م الموافق 26 ربيع الثاني 1426هـ