تحركت الحال السياسية في بريطانيا من جديد بعد فترة من الهدوء النسبي، وذلك بسبب النتيجة السلبية التي تمخض عنها استفتاء الفرنسيين على دستور الاتحاد الأوروبي المقترح، اذ اغتنمت المعارضة البريطانية الفرصة لتشديد حملة التحريض ضد سياسات بلير فيما يتعلق بالمرحلة المقبلة التي ستتولى فيها بريطانيا قيادة الاتحاد الأوروبي ابتداء من يوليو/ تموز المقبل.
وأبدت المعارضة تشفيها الواضح بما حصل في فرنسا، اذ لوحت إلى أن سقوط مشروع الدستور الأوروبي في واحدة من أبرز الدول الأوروبية المتحمسة لمرحلة الاصلاحات الاقتصادية التي تتطلع اليها أوروبا في المستقبل بعد انجاز مرحلة الاستفتاء، يعني ان الشارع البريطاني اصبح أكثر استعدادا لتكرار كلمة "لا" ورميها بوجه طوني بلير بعد عام من الآن فيما اذا تمت عملية الاستفتاء على الدستور الأوروبي في بريطانيا.
وقد احتل موضوع الدستور مساحات واسعة في معظم الصحف البريطانية المساندة والمعارضة لهذا الدستور، ومن خلال هذه الصحف يمكن رؤية حدود الاختلاف والتباين بين جناحي المجتمع البريطاني ونظرتهما لهذه القضية المهمة التي تتعلق بمصير أوروبا الجديدة.
وبعض هذه الصحف اعتبرت هزيمة الدستور في فرنسا واحدة من اخطر الازمات التي مر بها الاتحاد الأوروبي منذ تأسيس السوق الأوروبية المشتركة العام 1957 والى الآن.
ويبدو ان عيون الرقباء تتجه حاليا الى هولندا، اذ سيكون الاستفتاء الذي سيجرى يوم غد الاربعاء نقطة التحول التي ستحدد مستقبل الاتحاد عموما وستؤثر على توجهات حكومة بلير فيما يتعلق بالاستفتاء البريطاني، اذ ستقرر الحكومة البريطانية وبصورة نهائية امكان اجراء الاستفتاء أم لا.
وأشارت صحف المعارضة البريطانية وخصوصا صحيفة "ديلي ميل" المحافظة والمعادية لفرنسا الى ان "وثيقة الدستور المثيرة للسخرية والضعيفة قد دفنت ولمرة واحدة".
وأبدت هذه الصحيفة - التي كانت على مدى السنوات الماضية تلعب دورا تشهيريا بالاتحاد الأوروبي وتوجهات بريطانيا الأوروبية - بهجتها لما حصل فأبرزت عناوينها حالة من الارتياح والتشفي لما جرى مثل عنوان "تحيا فرنسا، تحيا الجمهورية، يحيا التحرير" وغيرها.
واتفقت معظم الصحف اليمينية على ان بلير يتعرض حاليا الى موقف محرج بسبب الـ "لا" الفرنسية وربما الـ "لا" الهولندية، لكن هذا التقييم الذي تشير إليه صحف اليمين البريطاني ربما يلتقي مع تقييمات صحف اليسار ولكن بصيغ اخرى خالية من العواطف أو الاعتبارات السياسية التحريضية، فصحيفة "الغارديان" اليسارية أشارت الى ان بريطانيا مستعدة للتخلي عن اجراء استفتائها وهي تعتقد ان النتائج التي حصدها الاتحاد الأوروبي في فرنسا وربما في بلدان أوروبية اخرى اقنعت "شركاء بريطانيا الأوروبيين" بواقعية الاستغناء عن الاستفتاء البريطاني.
أما صحيفة "ديلي ميرور" اليسارية ايضا فقد لوحت الى ان بلير سيتراجع عن مشروعه لاجراء الاستفتاء بعد ان قال الفرنسيون وبتركيز كبير "لا" للدستور.
لقد بدأت تظهر في بعض البلدان الأوروبية الرئيسية مخاوف حقيقية من قضية الدستور والاتحاد الأوروبي عموما، وخصوصا فيما يتعلق بانضمام البلدان الجديدة الى هذا الاتحاد، فالمرحلة المقبلة حتى نهاية العقد الجاري ستشهد انضمام كل من بلغاريا ورومانيا وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق اضافة الى تركيا، ويعتقد بعض الأوروبيين بأن وجود دستور يسهل انتقال واندماج هذه الدول الى الاتحاد سيخلق أوضاعا جديدة ذات طابع اقتصادي، اذ سيؤثر ذلك سلبا على مستوى معيشة الأوروبيين وستنافس الايدي العاملة الجديدة الايدي العاملة الوطنية في هذه البلدان، فضلا عن كون الدول الجديدة التي ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي هي أما ان تكون دولا متخلفة صناعيا، ستكون عالة على الدول الأوروبية المتقدمة، وأما ان تكون دولا زراعية ستغرق الأسواق الأوروبية بالسلع الزراعية المنافسة للسلع الزراعية المتداولة حاليا، وبذلك تؤثر على حياة قطاعات واسعة من المزارعين الأوربيين فضلا عن صعوبة اندماج بعضها كما هو الحال بالنسبة الى تركيا لاسباب تتعلق بطبيعة المجتمعات الأوروبية القديمة والحديثة.
وهناك أسباب أخرى ذات طبيعة سياسية، فالاحزاب اليمينية والقومية والعنصرية تحاول العزف على الجانب المتعلق باستقلالية الدول والمجتمعات الأوروبية وبحسب هذه الأحزاب فإن اندماج بلدانها بالاتحاد الأوروبي تحت مظلة دستورية موحدة يؤدي إلى فقدان هذه الدول لخصوصياتها الوطنية، وتلغي التراث القديم المتوارث وتجعل تلك البلدان تسير تحت قيادة واحدة، وبذلك تضيع مكانة هذه الدول في بوتقة القارة الأوروبية المتعددة الاعراق والعادات والقيم.
وهذه القناعات ذاتها هي التي وقفت في بريطانيا ضد تغيير العملة الوطنية "الجنيه الاسترليني" الى "اليورو" اذ يعتبر البريطانيون عملتهم ذات التاريخ القديم عبارة عن هوية وطنية وتراث ثقافي شعبي متوارث.
بلير يعيش حاليا في واقع محرج للغاية بسبب ما آلت إليه عملية الاستفتاء على الدستور الأوروبي في فرنسا، فالمعارضة البريطانية تعتبر هذه النتيجة خدمة مشتركة لكل من جاك شيراك وحليفه طوني بلير وهذه الضربة بحسب رأيها لا تعالجها الاسعافات الأولية لانها تهتم بالدستور قبل الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
وقد أشارت الى ذلك بوضوح صحيفة "الفايننشال تايمز" وقالت "ان الأمر الاكثر أهمية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي من الدستور هو مستقبل الاصلاح الاقتصادي، فمن دون تحقيق الاصلاح الاقتصادي يكون من غير الممكن ان يحقق الاتحاد اهدافه السياسية، أيا كان الاطار الدستوري الذي يحكمه".
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هو هل يستطيع القادة الأوروبيون معالجة هذه المشكلة من دون ان يفقدوا بوصلة اتجاههم نحو توحيد أوروبا طبقا لخططهم السابقة؟ وهل سيكونون قادرين على ترميم الضرر الذي أصاب اتحادهم بسبب الاقتراع الفرنسي السلبي؟
المؤشرات غير واضحة ولكن التكهنات ربما تتجه نحو القناعة بأن الهزيمة في مكان من الخريطة الأوروبية ستحفز الاماكن الأخرى لرفع مستوى المواجهة والبحث عن وسائل بديلة لتحقيق الاهداف القريبة والبعيدة
العدد 1000 - الأربعاء 01 يونيو 2005م الموافق 23 ربيع الثاني 1426هـ