عبثا يدعو رومانو برودي، رئيس المفوضية الاوروبية، بلدان القارة القديمة إلى «البقاء موحدة في هذه اللحظة التي تشهد قلقا متزايدا»... عانيا بذلك بطبيعة الحال، الحرب التي تزمع القيام بها الولايات المتحدة ضد العراق، والتي يقابلها الاوروبيون، في ما عدا بريطانيا، بالاعتراض، ولكن على نحو يتسم بقدر من التفاوت الملحوظ، وبتشتت في المواقف وفي الرؤى، يبقى من دون تمكين الاتحاد الاوروبي من الالتئام حول مقاربة موحدة وفاعلة حيال تلك المسألة (كما حيال الكثير من المسائل الدولية الاخرى).
فبين حدين اقصيين يتمثلان من ناحية، في ذلك البريطاني اللصيق بالسياسة الاميركية إلى حد التماهي التام معها، ومن ناحية اخرى في ذلك الالماني المستجد، والذي عبر عنه المستشار غيرهارد شرودر، والرافض للانخراط في غمار المغامرة العراقية حتى في صورة صدور قرار عن مجلس الامن يسوّغها ويسبغ عليها «الشرعية»، تتدرج مواقف بقية الدول الأوروبية، وتتعدد بقدر تعدد اعضاء اتحادها أو تكاد. من فرنسا التي توحي بأنها لا ترى غضاضة في محاربة العراق مشترطة مصادقة مجلس الامن، ذلك الذي من شأنه ان يحفظ لها دورها وهي صاحبة المقعد الدائم فيه، إلى إسبانيا التي تشاطر واشنطن يقينها بأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، أو هو على أهبة امتلاكها، ولكنها تحبذ إفساح المجال في وجه الوسائل الدبلوماسية قبل الركون إلى خيار الحرب، إلى ايطاليا التي تميل إلى محاباة جورج بوش، تطالب بتفويض أممي، ولكنها تبدي في «مطالبتها» تلك اعتدالا، وتوحي بأنها قد تتفهم واشنطن ان هي أقدمت على الحرب منفردة وانها قد تساندها... وهلم جرا بالنسبة إلى بقية المواقف الأوروبية.
لوهلة اولى، قد لا يوجد في ذلك من جديد يستحق التوقف عنده، والاتحاد الاوروبي لا يفصح، من خلال تشتت دوله حول المسألة العراقية، سوى عن قصور معهود ومقيم، سمة درج عليها ووسمت حضوره على الصعيد الدولي منذ ان رأى ذلك الكيان النور ككيان قائم الذات. بل انه قد لا يكون من قبيل المبالغة القول بأن الاتحاد الاوروبي لا يعدو ان يكون، في العمق وفي نهاية المطاف، غير صيغة مطورة لما كان «السوق الاوروبية المشتركة» اي مجال تبادل وتكامل اقتصادي متقدم، وانه قد اخفق، اقله حتى اللحظة، في ان يكون اكثر من ذلك، اي في ان يمد بلدان القارة القديمة المنضوية فيه بإرادة وبهوية سياسيتين تعبران عن تمايزها بصفتها الاتحادية تلك، وبالقدرة على التأثير في مجريات العالم، ذلك القريب المتاخم، حميم العلاقة بأمنها وبمصالحها، شأن البلقان أو الشرق الاوسط، ناهيك عما كان منه قصيا بعيدا، آسيويا أو أميركيا لاتينيا.
كل ذلك صحيح، ولكنه لا يلغي ان في الامر جديدا، وانه قد طرأت على الاتحاد الاوروبي، خلال العام الماضي، تطورات وتحولات صحيح انها لا تزال في اطوارها الاولى، وتعبر عن نفسها بقدر من الاحتشام، ولكنها ربما كانت بالغة الوقع بعيدة الاثر في مستقبل الايام، خصوصا انها قد وجدت في السجال الدائر حول الحرب على العراق اولى فرص الظهور إلى العلن على نحو لا يخلو من دراماتيكية.
بوسع المرء المراقب ان يلحظ في هذا الصدد تطورين اساسيين. اما الاول، وهو بالتأكيد من تداعيات حوادث 11 سبتمبر/ ايلول فهو ذلك المتمثل في غلبة الهواجس الامنية على دول الاتحاد الاوروبي، اسوة في ذلك بالكثير من دول العالم، وإن مع نسبة من القلق ومن التوجس اكبر فيما يخصها، طالما ان تلك الدول الاوروبية، من ناحية، تضم جاليات مسلمة كبيرة، للاتجاهات المتطرفة قدر من التأثير في بعض اوساطها، حيث اكتشف بأن لتنظيم «القاعدة» خلايا في بعض الحواضر الاوروبية وان بعض الضالعين في العدوان على برجي مركز التجارة العالمية، قد اقاموا فيها أو مروا منها، ومن ناحية اخرى، لان تلك الدول، لانتمائها إلى العالم الغربي، تخشى من ان يشملها الحقد الموجه ضد الولايات المتحدة، وان تُستهدف هي بدورها، وفي ذاتها.
مثل تلك الهواجس الامنية، ادت طوال السنة الاخيرة، إلى عودة السيادات الوطنية إلى الانتعاش وإلى استعادتها لبعض المكانة التي كانت لها في الماضي، وافتقدت الكثير منها لصالح البناء الاوروبي الموحد. حتى الآن، لم يفض ذلك التركيز على الهواجس الامنية إلى جهر هذه الدولة أو تلك من دول الاتحاد الاوروبي بنقض هذا الاخير أو ترتيباته، كليا أو جزئيا، خصوصا ما كان منها من قبيل «اتفاقات شنغن»، عن فتح الحدود وحرية تنقل الاشخاص، من اوروبيين أو مقيمين، لكن نزوعا متزايدا نحو إعادة تنشيط الصلاحيات السيادية الوطنية، في ذلك المجال الامني، ما انفك يتأكد، على رغم من ان التعاون وثيق بين الاجهزة الاوروبية، والغربية على نحو اعم، في التعاطي مع مشكلة هي بالتعريف كونية وعابرة للحدود.
غير ان التطور الاهم الذي شهده الاتحاد الاوروبي، هو ذلك الذي عبر عنه تباين المواقف أو اضطرابها حيال موضوع الحرب على العراق، حيث يبدو أن القارة القديمة في شقها الغربي، بات يتنازعها، وذلك للمرة الاولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قطبان من داخلها: احدهما تقليدي، هو ذلك الذي تمثله بريطانيا، يمكننا ان نسميه بـ «القطب الاطلسي»، يبقى مشدودا إلى علاقته الخاصة بالولايات المتحدة، مصرا على ربط مصير القارة الاوروبية بها، اقله في ما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية الكبرى، ساعيا إلى استئناف تلك الحال التي كانت قائمة طوال حقبة الحرب الباردة. وذلك «القطب الاطلسي» هو الذي ظل غالبا حتى الآن، ودأب على فرض ارادته، حيث انه لم يسبق له ان قوبل بمقاومة جدية، تتعدى التململ الذي ينتهي إلى الإذعان.
اما القطب الثاني، فهو ذلك الذي برز حديثا في الآونة الاخيرة، وتجسده المانيا، التي أعلنت تمردا غير مسبوق على الولايات المتحدة، وشقت عصا الطاعة على نحو فاجأ الجميع، عندما تنصلت على نحو حاسم مبرم من مجاراة واشنطن في حربها المزمعة ضد العراق، مبدية اصرارا لا يقبل المساومة، ناكرة على رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير حق النطق باسم اوروبا، على ما صرح شرودر، ومعلنة بأنها ستلتزم بامتناعها ذاك، وستظل ضنينة بمساندتها للمسعى الاميركي، حتى وان صدر بذلك الشأن قرار عن مجلس الأمن.
هو اذن قطب جديد، يمكن تسميته بـ «القاري»، ينتصب، للمرة الاولى في مواجهة ذلك «الاطلسي» الآنف الذكر. وتلك ثنائية، إذا ما تأكدت، خصوصا اذا ما فاز المستشار شرودر في الانتخابات النيابية المقبلة، يمكنها ان تنتقل بالنصاب الاوروبي إلى طور جديد، وإلى اصطفافات غير مسبوقة، أو ان بعضها قد يستعيد انصبة كانت قائمة في ماضي القارة وإن من بعض الاوجه. من ذلك ان فرنسا مثلا، قد تعود إلى سلوك كثيرا ما لجأت إليه منذ توحيد المانيا على يدي بيزمارك وحتى الحرب العالمية الثانية، هو ذلك الذي قام تقليديا على موازنة النفوذ الالماني شرقا بالنفوذ البريطاني غربا، والترجح بينهما اعتمادا على احدهما في مواجهة الآخر او انها ربما ابتدعت لنفسها، على قاعدة موقعها ذلك، دورا جديدا، في «تجسير الفجوة» بين القطبين وفي التحول الى نقطة توازن بينهما على صعيد القارة.
يصعب التكهن بمستقبل الاتحاد الاوروبي على ضوء هذا المستجد وتبعاته المحتملة. كل ما يمكن قوله ان الاتحاد المذكور ربما كان بصدد مبارحة حال العطل السياسي التي كان يتسم بها، وانه سيصبح مجالا لصراع الدول والارادات، أي بكلمة واحدة، مجالا للتاريخ
العدد 10 - الأحد 15 سبتمبر 2002م الموافق 08 رجب 1423هـ