العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

خلافات على قضايا إقليمية تبدأ بالسودان وتنتهي في العراق

ماذا تريد واشنطن من القاهرة؟

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

كيف يعقل أن تؤنّب الولايات المتحدة دولة مصر علنا؟ كيف تُطلق أميركا خطابا تأديبيا لأهم حليف استراتيجي إقليمي في منطقة الشرق الأوسط؟ لماذا الآن، وأميركا بحاجة إلى كل دعم عربي وإسلامي لحربها المرتقبة ضد العراق؟ هل المطلوب إحراج مصر كما تحرج السعودية الآن؟ هل تبدلت الموازين والأهميات الجيو - سياسية للدول عموما، وللحلفاء خصوصا في المنظور الأميركي؟ هل إن إحراج مصر يخرجها من المنظومة السلمية الشرق اوسطية، ليضع السلم مع إسرائيل على كفّ عفريت؟ هل إن مصر قادرة على الخروج من السلم؟ أسئلة معقدة وصعبة. وقد يكون الجواب على سبب التجريح الأميركي لمصر مزيجا من كل ما ورد أعلاه.

ربط الرئيس الأميركي جورج بوش حديثا المساعدات الأميركية لمصر، بمصير السجين سعدالدين ابراهيم، محرجا بذلك الرئيس المصري الحليف الأهم في العالم العربي والاسلامي. لكن الأكيد ان هذا التهديد لم يتناول المساعدة السنوية الكبرى لمصر التي تقدر بملياري دولار أميركي. ويبقى السؤال، هل إن مصير سعدالدين ابراهيم حيوي لحرب أميركا على الارهاب؟ وهل إن مفهوم حقوق الإنسان استفاق الآن ضد مصر، وتجاهل سابقا ما يجري في الكثير من دول العالم وعلى رأسها أميركا. يبدو الموضوع أبعد من مسألة الموقوف سعدالدين إبراهيم. كذلك الأمر يبدو أن أميركا تحاول توجيه رسالة إلى مبارك تتعلق بموضوع مهم جدا. فما هو؟

في البعد السوداني

تشعر مصر حاليا انها مستبعدة من المشاريع السلمية المطروحة لحل النزاع السوداني. فالاجتماعات التي عقدت بين ثوار الجنوب والحكومة السودانية، حصلت من دون مشاركة مصر حتى بصفة مراقب. فكيف يعقل ان تستبعد مصر الحليف الأهم في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا عندما يتعلق الأمر باهتمامات استراتيجية حيوية تاريخية كانت من اساس قيام الحضارة المصرية. فمصر من دون النيل ليست مصر. من هنا يبدو ان تهديد الأمن المائي الغذائي المصري هو ما يقلق القيادة المصرية. فالمشروع المطروح لحل قضية السودان يتضمن انفصال الجنوب عن الوطن الأم، وهو المنطقة التي تسيطر تقريبا على مصادر مياه النيل. ويذكر ان القيادة المصرية وعبر كل تاريخها، أدخلت موضوع المياه في المرتبة الأولى في أهتماماتها الاستراتيجية. وهي أعدت الخطط وأمنت الوسائل العسكرية اللازمة لدرء هذا الخطر، بشكل يوازي ما أعدته وأمنته للخطر الآتي من الشرق والمتمثل في إسرائيل. كذلك لا يمكن لمصر ان تقبل بتقسيم اي بلد عربي وخصوصا إذا كان مجاورا، الامر الذي يشكل سابقة لمزيد من التقسيم في اماكن اخرى من العالم العربي. ماذا فعلت مصر حتى الآن جوابا عن هذا الواقع الجديد؟ حتى الآن بدا الخطاب المصري معترضا من دون أن يكون هجوميا، الوضع الذي قد لا يبرر التأنيب الأميركي. ماذا بعد؟

في البعد الارهابي:

حتى الآن، تتطابق الأجندة الامنية الاميركية مع الأجندة المصرية. فالبلدان كنظامين، مهددان من قبل تنظيم «القاعدة». ومصر حتى الآن تتعاون استخباراتيا إلى اقصى الدرجات مع حملة اميركا على الارهاب العالمي، في السر والعلن. حتى انه يقال ان اميركا تحاول ترحيل بعض عناصر «القاعدة» إلى بلدانهم الاساسية حتى يمكن استجوابهم من خلال استعمال وسائل عنف معهم. وعلى رأس هذه البلدان المتعاونة، مصر. إذا مرة اخرى لا ضرورة للتأنيب الاميركي. ماذا بعد؟

في البعد العراقي

ترفض القاهرة حتى الآن ضرب العراق (على الأقل علنا). وتحاول قدر الإمكان توجيه الجهد الاميركي نحو الوسائل الدبلوماسية المدعومة بالقوة العسكرية. فالقاهرة تعي في العمق تماما ان التغيير العراقي قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في المنطقة، الأمر الذي قد يبدِّل موقع قوتها في المعادلة الأميركية، وتسيطر فيها اميركا على مفاصل القوتين السياسية والنفطية. فما حاجة اميركا إلى مصر في ظل عراق مدجن، وسورية مطوقة، وإيران محتواة، وإسرائيل تقريبا مهيمنة على الداخل الفلسطيني. في هذا الوضع، هل تستطيع مصر التهديد بالخروج على العملية السلمية، أو هل يؤثر تهديدها؟. لا، طبعا. كما أنه حتى الآن، لم ترفض مصر استعمال أراضيها في الحرب على العراق كالموانئ مثلا، علما بأن الوضع الجغرافي المصري، يبعد مصر من ان تكون مهمة وحيوية لاميركا في هذه الحرب. فأميركا لا تحتاج إلى مصر عسكريا في هذه المرحلة، وخصوصا بعد «موافقة» الاردن السرية على ذلك. لم تقم مصر باية محاولة جدية «للخربطة» على اميركا، الأمر الذي لا يستدعي التأنيب العلني. ماذا بعد؟

في البعد الفلسطيني

سُرّبت حديثا خطة اسرائيلية تقوم على ارسال وحدة خاصة من الجيش الاسرائيلي لاعتقال الرئيس ياسر عرفات وترحيله إلى بلد آخر لا يقيم علاقات سلمية مع الكيان الصهيوني قيل انه لبنان، او نواكشوط في موريتانيا. رفض الكل هذه الخطة، وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية. كما رفض لبنان استقبال احد.

ما موقع مصر من هذا الامر؟

في ظل كل الابعاد التي تحدثنا عنها. لم تقم مصر بأي امر يستدعي التأنيب الاميركي العلني. كذلك الأمر، لا يمكن لمصر في الوقت نفسه ان تقدم تنازلات متكررة ومتعلقة بـ: أمنها الاستراتيجي (الأمن المائي) في السودان. بعدها القومي العربي والاسلامي مع المسألة العراقية. المسألة الفلسطينية، وهي المتهمة أصلا بالتخلي عنها عندما وقعت «اتفاق كامب ديفيد». كذلك لا يمكن لمصر ان تقبل ما يحاك للسلطة الفلسطينية، كأن تقول انها عاجزة عن التأثير. فهي بلد يقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهي لم تستعمل هذا الوضع للضغط على الحكومة الاسرائيلية لوقف المجازر ضد الفلسطينيين. حتى انها لم تقم بأقل ما يمكن تعبيرا عن سخطها، كقطع العلاقات وسحب السفير المصري من اسرائيل.

في هذا الإطار، قد تكون مصر رافضة لخطة ترحيل الزعيم الفلسطيني وبشدة. وهي قد تكون ممانعة لما يحاك للسلطة الفلسطينية والذي بدأت بشائره تظهر عبر خطة «غزة، وبيت لحم أولا». وهي قد تكون هددت بشيء ما إذا ما نفذت خطة الترحيل، أو رتب البيت الفلسطيني بشكل يجعلها خارج دائرة التأثير على مجرى الامور، وخصوصا ان لها حدودا مشتركة مع غزة. قد يكون هذا الأمر أزعج الادارة الاميركية، التي تحاول الآن انهاء القضية الفلسطينية وترتيب البيت الداخلي بطريقة تلائم الحليف الأهم في المنطقة (إسرائيل) وذلك بانتظار استكمال الاستعدادات للحرب على العراق. الحرب التي سوف تكون المدخل الاساسي لتغيير صورة المنطقة جذريا. او قد يكون هذا التأنيب كأنه مخرج لمصر مما قد يحدث لاحقا في الاراضي المحتلة. فالكل يتوقع ان «غزة اولا» سوف لن تنجح بسبب المعارضة لها. والفشل قد يعني آخر ورقة للرئيس عرفات قبل عملية الترحيل واعادة احتلال كل الأرض والبقاء فيها.

ماذا يمكن ان تفعل مصر في هذه المرحلة؟

لا يمكن لمصر وقف المبادرة الاميركية لحل الأزمة السودانية، حتى لو كان الحل يتعلق بالأمن المائي المصري. فالحرب المصرية مستبعدة، لانها سوف تؤخذ على انها حرب على اميركا. وهل من عاقل يريد حربا على «الديناصور» الاميركي الجريح والهائج الآن؟ حتى ان الحرب تستلزم دعما من دولة كبرى كما كانت الحال ايام الحرب الباردة، وهذا الأمر لم يعد متوافرا حاليا. كل ما يمكن لمصر ان تفعله هو ان تحاول تأمين مستقبل المصدر المائي مع ما قد تنتجه المبادرة الاميركية، وذلك من خلال الدبلوماسية فقط. كذلك لا يمكن للقاهرة ان تقف مع الارهاب الذي تقاتله أميركا. فهي اصلا مستهدفة منه وبقوة. كذلك هي اصبحت في نقطة اللاعودة من هذه الحرب على الارهاب. كما ان مصر لا تريد ان تعاكس تيارا عالميا معاديا للارهاب، التيار الذي سوف يرسم ملامح النظام العالمي المقبل. وهي لا تريد ان تكون خارج القطار، لا بل تريد ان تكون مشاركة وبفاعلية. وبالنسبة الى العراق يبدو التأثير المصري غير فعّال، لأن وضع مصر اختلف عما كان عليه ابان حرب الخليج الثانية. وهي اصبحت الآن هامشية لان اميركا أصبحت متداخلة، موجودة ومؤثرة بعمق في منطقة الخليج ومحيطها بشكل يجعلها تقود الحرب من دون موافقة احد، لا من داخل المنطقة ولا من خارجها. فإذا ما تعذر تأمين قواعد انطلاق للطيران الأميركي من الدول المحيطة بالعراق (وهذا مستبعد)، فإن أميركا قادرة وبعد تجاربها الناجحة في كوسوفو وافغانستان على ان تبتكر اساليب مختلفة، وقد تكون حاملات الطائرات بديلا لذلك. فأميركا استطاعت من خلال هذه التجارب ان تخلق عقيدة قتالية استراتيجية جديدة تؤمن لها تحقيق اهدافها السياسية، وذلك من دون اللجؤ إلى العمل الدبلوماسي المضني.

تقوم هذه العقيدة على: جيش خفيف وسريع الانتشار ومجهز بعتاد تكنولوجي متقدم. يرتبط هذا الجيش بمنظومة قيادة واتصال وسيطرة متطورة وسريعة جدا. تدعم هذا الجيش قدرة نارية غير محدودة متمثلة في تنوع جوي فريد من نوعه، وسلاح صاروخي ذكي لم يعرف تاريخ الحروب مثيلا له. كل هذا في ظل سيطرة اميركية على البحاروالجو والفضاء والمعلومات. ويذكر ان هذه العقيدة ووسائلها لا تتوافر لأية دولة في العالم الامر الذي يطلق يد اميركا من دون رادع.

وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية وهنا بيت القصيد، لا يمكن لمصر التي خاضت اربع حروب تقليدية وحرب استنزاف، وضحّت بآلاف الضحايا ومليارات الدولارات من أجلها، ان تدير لها ظهرها في الوقت الحرج. فالثقل المصري لدى الولايات المتحدة وأهميتها الاستراتيجية في المنطقة قاما على دور مصر الريادي في الصراع العربي الاسرائيلي. فهل يمكن التخلي عن مصدر القوة الوحيد المتبقي؟

ماهو السبيل الممكن والمتبقي إذا؟

يتهم الغرب العرب عموماً بانهم عاطفيون في قراراتهم وخياراتهم الاستراتيجية. فهم ذهبوا في حروبهم ضد اسرائيل من دون تحضير مسبق، وطالبوا دائما بالحد الأقصى لأهدافهم (Maximalist)، مبتعدين عما هو واقعي/منطقي. حتى انهم يعتبرون التراجع عن بعض القرارات هزيمة بحد ذاتها، متناسين ان لتحقيق الاهداف ظروفا خاصة مساعدة قد لا تتوافر دائما. وهم ايضا يشعرون ان التراجع المؤقت امام العدو الأكبر هو هزيمة نكراء بحد ذاتها. فهل هذا صحيح؟

يعتبر المحللون ان العرب حققوا اقصى انتصاراتهم ضد إسرائيل، عندما كانوا عقلانيين. وعندما ادركوا ان للحرب آلياتها الخاصة، وان للحرب حدودها القصوى. وهم نجحوا، عندما فهموا ان الحرب هي السياسة بوسائل اخرى، وانها ليست كل السياسة وليست بديلا عنها.

في العام 1973 قاد العرب الحرب ضد إسرائيل ضمن اهداف محدودة، وكمحرك فقط للستاتيكو السياسي الذي كان قائما ونجحوا. في العام 2000 انسحبت اسرائيل من جنوب لبنان تحت ضربات المقاومة، نتيجة واقع واستراتيجية عقلانية اعتمدها كل من حزب الله (لبنان)، وسورية. فحزب الله لعب اللعبة بحسب الأصول خلال صراعه العسكري في جنوب لبنان، مستنداً إلى شرعية غير منقوصة معترف بها حتى من قبل اعدائه، وإلا فما معنى توقيع اسرائيل وموافقة اميركا على تفاهم ابريل/نيسان العام 1996؟

في ظل هذا الوضع، تبدو الهجمة الاميركية على مراكز الثقل العربية والمتمثلة في كل من السعودية ومصر، قوية وشرسة، فهل يمكن الصمود والمقاومة؟
طبعاً، لكن ضمن العمل الجماعي

ويتساءل المرء العربي حاليا عن دور الجامعة العربية. وهل يعقل ألا يدعى العرب إلى اجتماع طارىء في ظل هذه الهجمة؟ كما يمكن السؤال عن المصالحة السعودية العراقية خلال قمة بيروت، وعن آليات تطبيقها؟ وهل كانت استعراضية فقط؟ ونسأل نحن الآن، ما يمنع العراق الآن، وفي ظل التهديدات التي تتناول كيانه واستمراره، من ان يعلن انه مستعد للاعتراف الرسمي بدولة الكويت، وهو مستعد لترسيم الحدود تحت اشراف الأمم المتحدة (قبل ما حددته الامم المتحدة سابقاً)، وذلك بعد تحرير الاسرى الكويتيين من سجونه؟ وما الذي يمنعه من ان يقود حملة دبلوماسية تحت جناح الجامعة العربية، وبقيادة كل من مصر والسعودية تهدف إلى التعامل مع موضوع التفتيش على أسلحته غير التقليدية، ام ان التراجع امام التهديدات المصيرية يعتبر خسارة وفقدانا للشرف العربي؟ وهل ان الكلفة من خلال الجامعة العربية، هي أغلى من الحرب المقبلة عليه وعلى العرب؟ أسئلة بحاجة إلى أجوبة سريعة وتحديداً من قبل السعودية ومصر.

فهل هذا ممكن؟

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً