العدد: 625 | السبت 22 مايو 2004م الموافق 02 ربيع الثاني 1425هـ
هل يعيد التاريخ نفسه في العراق (2)
المرجعية الشيعية في ثورة العشرين ومطلب الاستقلال
الكاتب: سامي عباس منصور - comments@alwasatnews.com
تتمتع المرجعية بأهمية اجتماعية وثقل سياسي اكتسبتها من موقعها كجهة تشريعية وإطار عقائدي وفر لها إمكان تخطي الحواجز الجغرافية من خلال رابطة التقليد. كان من أبرز المراجع الذين عاصروا تلك الفترة السيدكاظم اليزدي والسيدمحمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الاصفهاني، ومن نافلة القول إن نشير إلى أن موقف المرجعية قبل دخول قوات الاحتلال البريطانية العراق كان مؤيدا للدولة العثمانية من خلال فتاوى الجهاد ضد القوات البريطانية، وهو ما شكل أرضية ملائمة لمقاومة الاحتلال لاحقا. كما سنلاحظ ان هناك هاجسا كبيرا يحكم القرار المرجعي، وهو الحفاظ على الدم والتحوط الشديد في الحفاظ على حرمة الأرواح.
واليوم نكمل حديثنا عن دور المرجعية الدينية الشيعية، بالتوقف أمام مواقف ثلاثة من المراجع الكبار ودورهم في ثورة العشرين، وتعاطيهم مع الشأن السياسي في تلك المرحلة التاريخية الحاسمة.
مواقف اليزدي
من الأتراك والبريطانيين
السيدمحمد كاظم اليزدي الطباطبائي من المراجع الذين تزعموا حركة المستبدة في النجف المعارضة لحركة الدستورية الداعية لإنشاء مجلس شورى في إيران، وهو ما عرف بالحركة المشروطة وكان النزاع بين الطرفين شديدا ومؤلما وبلغ النزاع أشده بين السيداليزدي والشيخ الخراساني العام 1907م.
كان اليزدي من المراجع الذين أفتوا بوجوب الجهاد ضد الانجليز إبان الحرب البريطانية التركية، وكان له موقف من ثورة العام 1915م ضد الأتراك في مدينة النجف وصفه سليم الحسني بقوله: «انه غير قاطع وأن مواقفه والمراجع الآخرين تحركت في الوسط بين التأييد والمعارضة، لكننا نرى أن قبوله لدور الوسيط بين السلطة التركية وبين الثوار هو دليل كافٍ على رفضه لهذه الثورة التي جاءت في وقت كانت القوات التركية مشغولة بالحرب ضد البريطانيين. وما يؤكد ذلك أكثر هو اكتفاؤه بإرسال برقية استنكار إلى اسطنبول احتجاجا على ضرب القوات العثمانية لأحد المآذن في الحرم العلوي». وكان لليزدي موقف مشابه أيضا في ثورة النجف 1918، إذ حاول الاكتفاء بدور الوسيط وحجب الدعم المرجعي الفتوائي عنها، وهو ما يعكس عدم تأييده للثورة. وما يؤكد ذلك عباراته الغامضة التي كان يذيلها على العرائض التي كان يرفعها وجهاء وشيوخ وعلماء النجف في مطالباتهم برفع الحصار عن النجف الأشرف، كما أنه كان يحذر رؤساء الثوار من العواقب السيئة التي ستحل بالنجف من جراء محاربة الانجليز، وصار يحذر الناس من مغبة محاربة الانجليز وقال إنهم يملكون الطواب، أي المدافع.
وقد فسر المؤرخ العراقي علي الوردي هذا الانقلاب في موقف المرجعية من الحركة الثورية ضد الانجليز في النجف 1918 بعد أن كانت قبلها قد دعت للجهاد ضدهم بأنه راجع إلى ان السيداليزدي اعتبر هذه الثورة من أعمال «المشاهدة» الذين اعتادوا على قيم البداوة ولا يفهمون من الدين سوى مظاهر شكلية، وبالتالي هم مفسدون. وقد كثرت من جراء موقفه هذا إشاعات قبيحة ولاسيما بين أقارب المشنوقين والمنفيين، فقد قيل عنه انه رفض التشفع لدى الانجليز لتخفيف حكم الاعدام عنهم.
وكانت آخر مواقفه هو موقفه من الاستفتاء، فحسب تقرير سري للحاكم السياسي آنذاك ويلسون، كان اليزدي قد أعرب له عن ضرورة أخذ مصالح الشيعة في الاعتبار وخصوصا البسطاء منهم، كما أعرب عن موافقته على ان يظل الحكم البريطاني في العراق لأن الناس غير متمدنين، وإذا نصب عليهم موظفون عرب أدى ذلك إلى الفوضى، لكنه عندما جاء نفر من العراقيين اختلفوا في من يتولى أمر العراق، إلى اليزدي ليكون الحكم الفاصل في الاختلاف فاعتذر عن إبداء رأيه وقال: «أنا رجل لا أعرف السياسة بل اعرف هذا حلال وهذا حرام»، وبعد الإلحاح قال لهم: «اختاروا ما فيه صلاح المسلمين».
بروز المرجعية البديلة
ولما كان السيداليزدي قد صارح القوم بأنه ليس من السياسة في شيء ولم يمارسها طوال حياته وأنه بذلك يخشى من مزالقها وأنه لا يريد إلا تعاطي ما خلق له من تسيير شئون مرجعيته الدينية، لذلك اتجهت انظار الجميع إلى الرجل الذي يمكن ان يكون مؤهلا لقيادة العمل الثوري المسلح، فوجدوه في شخص الشيخ محمدتقي الشيرازي الذي كان لا يقل شهرة وصلة بالجمهور عن اليزدي. وكان الشيرازي يقيم في ذلك الوقت في سامراء، فكتب المعدّون للثورة إلى نجله الشيخ محمد رضا ليعرض الأمر على والده، ثم لينتقل الوالد إلى النجف فجاء الجواب بالموافقة وان الشيخ يتهيأ للانتقال. ثم ارتأوا أن تكون كربلاء هي مقر الشيخ لعوامل عدة. وكانت أولى خطواته السياسية هي فتواه المشهورة التي أيد فيها «الجمعية الإسلامية»، وهي جمعية سرية أسسها ابنه محمد رضا وانتمى إليها عدد من رؤساء كربلاء. وتنص هذه الفتوى على انه «ليس لأحد من المسلمين أن يتجنب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطة على المسلمين». وبذلك قطع الطريق على مواصلة الاستفتاء من قبل الانجليز وهو ما رفع منزلته عند الناس. ويمكن القول ان فتوى الشيرازي كانت عاملا في تطوير الوعي السياسي في العراق، وقد جعلت الدين والوطنية في إطار واحد.
ويلسون يزور الشيرازي
وفي 30 ابريل/ نيسان 1919، توفي اليزدي فأصبح الشيرازي هو المرجع الأول من دون منافس، وبذلك تقوّى موقفه وموقف المناوئين للحكومة البريطانية. (الأمين،ص 96 ) وقد بعثت حكومة الاحتلال ببرقية تعزية تضمنت بعض التلميحات. وجاء ويلسون بعد شهرين لزيارة الشيرازي في بيته وحاول استرضاءه وكسب بعض المواقف المؤيدة للانجليز، حتى ولو لم تتصل بالشأن العراقي كالقضية الإيرانية، لكن الشيرازي فوّت عليه الفرصة، وأدرك الانجليز أنهم غير قادرين على التأثير على الشيرازي فذموه وأبغضوه.
وأخيرا انتهز المنادون بالثورة المسلحة زيارة 15 شعبان، وهي من أهم الزيارات في كربلاء، لمفاتحة الشيرازي بالأمر، فتقرر انتخاب وفد مؤلف من أربعة أشخاص يمثلون العشائر لمقابلته والتداول معه في الموقف والاتفاق على الخطوة القادمة، فلما اجتمعوا تم القرار على ان يتقدموا بكتاب خطي إلى السلطات البريطانية يحتوي على طلب الاستقلال التام وان يدعموا طلبهم بمظاهرات سلمية، فإن استجابت السلطات تحقق المطلوب، وإن لم تستجب أعلنوا الثورة المسلحة.
مطالب الاستقلال وفتوى الجهاد
غير ان الشيرازي لم يكن يميل إلى الثورة المسلحة بل كان يريد ان تبقى الحركة سلمية، ومن جملة ما قاله لهم انه يخشى ألا تكون للعشائر قابلية المحاربة، وأن يختل النظام والأمن وتكون فوضى، لكنهم أكدوا له عكس ذلك وتعهدوا له بحفظ النظام والأمن. ولما وجد الشيرازي موقفهم قال لهم: «إذا كانت هذه نياتكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم». وقد أقنعهم نجله الميرزا محمد رضا أن معنى كلام والده هو فتوى بالجهاد.
وقد قرر الإمام الشيرازي إرسال وفد من قبله لمقابلة الحاكم في بغداد وحمل معه المطالب الاستقلالية، لكن الحاكم رفض مقابلة الوفد واستلام كتاب الشيرازي وقامت في كربلاء احتشادات ومظاهرات وألقيت الخطب الحماسية العنيفة، فذهبت قوة عسكرية إلى كربلاء فطوقتها ثم اقتحمتها، وقبضت على الميرزا محمد رضا وعلى آخرين في يونيو/ حزيران 1920 (شوال 1338هـ)، ونفتهم إلى جزيرة هنجام في الهند. غير أن نفي ابن الشيرازي أحدث ضجة كبرى في الفرات الأوسط وصار محور حديث المجالس والمضائف والدواوين والمقاهي.
ويرى المؤرخون أن بدء انطلاقة ثورة العشرين هو في الثلاثين من يونيو سنة 1920 إثر اعتقال أحد زعماء العشائر في الرميثة بالفرات الأوسط، رئيس عشيرة الظوالم شعلان أبوالجون، وكان دافع السلطات البريطانية إلى هذا الاجراء امتناع الزعيم العشائري من الالتزام بضرائب الأرض المتوجبة عليه، ما أدى إلى اصطدامه بالضابط المسئول، فقبض عليه وأودعه سجن الديوانية. ولما وصل الخبر إلى ابن عمه أرسل له عشرة رجال من شجعان العشيرة حسب الاتفاق بدلا من الليرات العشر فبعثهم إلى السراي فقتلوا حارسين منهم وأخرجوا شعلان من السجن وعادوا إلى عشيرتهم وهم يهوسون. وكانت هذه الحادثة هي التي فجرت المنطقة الفراتية وحولتها إلى مسرح للثورة المسلحة.
يذكر أن عشائر الرميثة ظلت تقاتل وحدها نحو أسبوعين من دون ان تسرع إلى نجدتها أية عشيرة أخرى من عشائر الفرات الاوسط، وقد أثار هذا ألما شديدا للشيرازي في كربلاء وللمجتهدين الآخرين في النجف. ويقال إن الشيرازي عندما بلغته كثرة الجنائز المنقولة من الرميثة إلى النجف أعلن تذمره عن تقاعس العشائر وقرر بعد مشاورة أصحابه إرسال وفد إلى ويلسون يعرض فيها بعض الشروط لايقاف القتال غير أن ويلسون رفض مقابلته. وكان للشيرازي فتوى أجاز بها الثورة المسلحة اشتهرت بالفتوى الدفاعية، ونصها «مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمان مطالبتهم رعاية السلم والامن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الانجليز قبول مطالبهم». وعلى رغم أهمية هذه الفتوى لكنها غير مؤرخة، لكن من المرجح أن الشيرازي أصدر فتواه بعد اشتداد المعارك في الرميثة ومحاولته المفاوضة مع ويلسون.
دعم الثورة بالمال
وكان لهذه الفتوى صدى كبير في أنحاء العراق واتساع دائرة المعارك وارتفاع عدد المناضلين والمتطوعين، إذ توالت المعارك. وفي أشهر هذه المعارك التي انتصر الثوار العارضيات ومعركة الرارنجيّة إذ حقق فيها الثوار نصرا كبيرا .
وكان الشيرازي على رغم شيخوخته يولي الثورة اهتماما بالغا، وكان يرسل إليها كل ما يصله من الحقوق الشرعية ولا يبقى منها شيء، وكان في بعض الأحيان تتوافر لديه أكوام من النقود ما يرسله إليه المقلدون من مختلف الجهات، وكان يرفض أن يبقى منها شيئ لحاجات البيت ويصر على حملها كلها لجبهات القتال. وقد تدهورت صحته جرّاء مشاهدته للعدد الكبير من الجنائز التي جيء بها من جبهة القتال ولزم فراشه، ثم مات بعد أيام قليلة في 17 أغسطس/آب 1920، وكان لوفاته وقع كبير في نفوس المواطنين إذ خرجت مواكب العزاء وانتشرت شائعات مفادها انه مات غيلة بسم دسه الانجليز إليه.
شيخ الشريعة الأصفهاني
كان لآية الله فتح الله الاصفهاني نشاط سياسي قبل اندلاع ثورة العشرين إذ أسس في نهاية العام 1918 جمعية إسلامية سياسية في النجف الأشرف باسم الهيئة العلمية. وقد تضامن مع الإمام الشيرازي في توجيه كتاب للرئيس الاميركي وودرو ويلسون طالبا فيه باستقلال العراق.
وحاول الشيخ فتح الله الأصفهاني في بدايات اندلاع الثورة تحديد 8 يوليو/تموز 1920 للتوسط لإيقاف القتال وأرسل رسالتين الأولى للعشائر طالبهم فيه بإيقاف القتال وترك محاربة الحكومة والثانية موجهة لويلسون يطلب منه إعادة المنفيين واستعمال اللين مع العشائر الثائرة لكن جهوده لم تؤد إلى أية نتيجة.
قد يقال ان هناك أخطاء وقع فيها الشيخ الأصفهاني لعدم خبرته بميادين القتال، ومن جملتها موافقته أن تجرى مفاوضات عقد هدنة، واختار الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ محمود جواد الجواهري ليكونا مندوبين عنه فيما عرف بمؤتمر الكوفة 17 يوليو 1920، وقد نتجت عن هذه المفاوضات هدنة لمدة أربعة أيام انسحبت خلالها حامية أبو صخير إلى الكوفة من دون أن يصيبها أذى، وكانت غنيمة ضخمة كان من السهل الاستحواذ عليها.
وعلى إثر موت الشيرازي 17 أغسطس 1920 استقر الرأي في النجف على مبايعة الشيخ فتح الله الأصفهاني، وينقل انه افتتح كلامه في صحن النجف بالكلمة المعروفة التي نطق بها أبوبكر الصديق (رض) عند وفاة النبي وهي: «أيها الناس من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت».
واستغل ويلسون فرصة وفاة الشيرازي وانتقال المرجعية إلى الشيخ فتح الله الأصفهاني فقام بمحاولة لعرض الصلح عليه لكن حاشية الأصفهاني انقسموا إلى فريقين وكانت الغلبة إلى جانب الرافضين. وعندما وصل خبر رفض الصلح إلى جبهات القتال انقسموا إلى قسمين لكنهم في النهاية اتفقوا على تنظيم مضبطة يوقعون عليها جميعا ويوقع عليها الشيخ الأصفهاني يوضحون فيها ان الانجليز هم السبب في نشوب الحرب وقد كتبت عدة نسخ من هذه المضبطة لكي ترسل إلى إيران إذ تقدم إلى سفارات روسيا وأميركا وفرنسا وهولندا وتركيا وألمانيا، وكلف الشيخ محمد رضا الإيرواني بتوصيلها. وكان للشيخ فتح الله الأصفهاني دور إنساني كبير تجلى في حرصه على حسن معاملة الأسرى، حين وجه كتابا إلى محسن شلاش يحضه على العناية بهم واعتبارهم وديعة مقدّسة، وهي لمحة لابد من التوقف عندها ونحن نشاهد ما يجري اليوم من معاملة للأسرى العراقيين في سجون الاحتلال الاميركي، أخذا في الاعتبار موعد صدورها قبل ثمانين عاما، يوم كانوا ينظرون إلى العراقيين بأنهم قوم لا يصلحون لإدارة أنفسهم، واليوم جاءوا باسم التحرير لينجلي الغبار عن مثل هذه المعاملة التي لا تفرقهم عن معاملة النظام السابق الذي جاءوا لتخليص العراقيين من براثنه
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/392596.html