العدد: 367 | الأحد 07 سبتمبر 2003م الموافق 11 رجب 1424هـ

ضريح وهبها قدسية

جزيرة «النبيه صالح» شاهدة على أطلال تستثير البكاء

المدخل يوحي منذ الوهلة الأولى بأنه مدخل لبقعة عامرة تمثل رقما مهما لجزر البحرين الـ 33 كما تذكر أكثر المصادر الجغرافية... مركز الشرطة اتخذ من بوابة الجزيرة مركزا له، وحراس المركز على اليمين وعلى الشمال، وعلى الجنوب انحنت نُخيلات بتواضع تام، وكأنها تهمس لصُويحباتها بحكايات ماضٍ عريق كانت فيه النخيل تتسامر في دُجى الليل، وفي الصباح تزين مدخل الجزيرة مشكِّلة حلقة سوَّاها الباري وأبدع مَرْآها... ومن ناحية الشمال يقع «نادي قوة الدفاع» الذي كان يشكل هو الآخر بستانا جميلا.

بعد مسافة ليست بالبعيدة عن المدخل تتراءى للناظرين عينٌ أحيطت أطرافها بالطوب، إنها عين معروفة عند أهالي جزيرة النبيه صالح بعين «السفَّاحية» ، اقتربنا من العين علّنا نجد فيها حياة، ولكننا لم نحظَ برؤية مائها الذي وصفه أهالي الجزيرة بـ «العذب الزلال» و«المغذي لأطراف وبساتين المنطقة».

كانت «الوسط» تبحث عن عين اشتهرت بها الجزيرة، عين «جوجب الشيخ» (كوكب الشيخ). بحثنا في الموقع الذي حدده لنا أهالي الجزيرة، ولكننا لم نجد إلا ردما ولا أثر يُذكر لهذه العين، وبعد أن فقدنا الأمل في إيجاد أثر لها أمضينا رحلة البحث في العُمق علّنا نجد عين «الخضرة»، ولكن السيناريو يتكرر من جديد... ردم ودمار... ولا يوجد سوى الأثر الذي يدعوك إلى التأمل بحزن... أُهيل التراب عليهما، وواراهما الدهر، غابتا وغيّبتا معهما جمال جزيرة النبيه صالح.

قُبّة أزهريَّة

في الأفق البعيد تلوح قبة أزهرية، إنها قبة مسجد النبيه صالح، مرقد دُفن فيه شخص اقترن اسم الجزيرة به، مزار يقصده الوافدون من أدنى البلاد ومن أقاصيها، يقصده المسلون وغير المسلمين، في الداخل يوجد ضريح النبيه صالح. ولفت انتباهنا مجموعة من الآسيويين، قام أحدهم ووضع مبلغا من المال في الصندوق، وجلس بجوار أصحابه، مطأطئين الرؤوس، ضامّين الأكف، مرددين كلاما لم نفهم معناه (...) بعد لحظات تدلى صليب علقه أحدهم على رقبته فأرجعه الى مكانه، وكانت هذه دلالة كافية أزالت الحيرة، فالمزار لا يقتصر على دين أو مذهب بعينه.

عندما ترى الوافدين على الضريح تتساءل عن السر الذي يتجلى وراء قُضبانه، فمن هو النبيه صالح... قصته معروفة عند أهالي المنطقة إذ يُنقل في أكثر الروايات - التي يتناقلها أبناء القرية ووثقتها بعض الكتب المحلية - أن صالح النبيه كان يصلّي وراء أحد شيوخ الجزيرة، وكان يحضر صلاة الصبح والمغرب والعشاء فقط، وحصل أن جاءت زوجة النبيه تشكوه عند الشيخ لتأخره في بعض الليالي وأنه لا يسمع لها كلاما، فناداه الشيخ وكلَّمه فأنزل رأسه ولم يرد جوابا، وجاءت الزوجة تشكوه مرة أخرى فكلَّمه وأعاد الحديث ولكن النبيه لم ينبس ببنت شفه، فشك الشيخ في أن هناك أمرا جليلا يخفيه، فسأل زوجته عن الليالي التي يخرج فيها ليتخفى في مكان يرى فيه النبيه دون أن يراه... تبع النبيه حتى وصل البحر فصلى في مسجد «الغبّة» ونشر إزاره على الماء وركبه! وفعل الشيخ كما فعل ووصلا إلى قرية توبلي وتحديدا مسجد «الحرم»، وإذا بحلقة مستديرة من العلماء توسطها الشيخ صالح ملقيا درسا فوق مستوى الشيخ فأكْبَرَ الشيخ ذلك من النبيه.

عند ذلك رجع الشيخ وانتظر النبيه حتى صلاة الصبح، ولما أن وصل طلب منه أن يصلي بالناس فأبى وتواضع حتى أصر عليه الشيخ، وقال له في أذنه بأنه رآه البارحة، تقدم النبيه صالح، ولكنه نبس في أذن العالم بأن يجهزوه بعد الصلاة، وبعد سجدة الشكر دعا ربه فقبضت روحه.

وهكذا تحول اسم الجزيرة من (أُكُلْ) إلى جزيرة النبيه صالح، وكانت محط أنظار العلماء وملتقى لهم. وبعد أن شاعت فضائل النبيه صالح أصبح الناس يقصدونه من كل مكان. وتبرع أحد المؤمنين واشترى سفينة وأوقفها للزوار ولأهل الجزيرة، وتبرع آخر وأوقف بستانا من النخيل تصرف غلّته السنوية لتصليح السفينة ومن يعمل فيها.

وعلى اليمين من الضريح توجد أربعة قبور لعلماء مشهورين، وهم الشيخ داوود بن حسن البحراني وابنه، والشيخ ناصر بن أحمد بن المتوج البحراني، والشيخ أحمد بن عبدالله بن المتوج البحراني، والى جانب المسجد توجد مقبرة القرية. وهناك بعض القبور التي تعود إلى العصور القديمة وبناؤها خير دليل على ذلك.

«الوسط» جابت الجزيرة، ودلنا أهلها على منزل الحاج عبدالله الجزيري الذي يقع بالقرب من «كوكب الشيخ» وخلف عين «الخضرة» مباشرة، وفي باحة المنزل توجد عين صغيرة لم يبق منها سوى الماء الآسن، أفقدها ردم البحر صفاءها. استضافنا أهل البيت وذهبوا لمناداة الحاج عبدالله، وفي غضون دقائق أقبل منحني الظهر يتمايل إذ لا تقوى قدماه على رفع جسده الكهل. أخذ الجزيري يروي لنا حكاية بستانه الذي يكاد يهلك بعد أن أقعده الدهر مقعد المرض، وكيف كان أيام زمان.

سألناه عن عيون الجزيرة، فأجاب وحرقة قلبه طغت على كلامه: « أين العيون، العيون راحت خلاص... كانت هناك ثلاث عيون اشتهرت بها الجزيرة، وهناك عدد كبير من العيون الصغيرة التي لا تذكر، أما العيون الثلاث فهي (السفاحية)، وعين (الخضرة) التي كانت تغذي الجزيرة بكاملها، و(جوجب الشيخ) الذي كان شباب الجزيرة يقصدونه ويسبحون فيه... عين (الخضرة) تحولت إلى الزبداني، كنا نشاهد السمك فيها ونشرب من مائها العذب، وكان الماء يمشي كالطوفان»...

وعندما سألناه عن العين التي تتوسط منزله أحنى رأسه قليلا، وأخذ ينظر باتجاه العين، وأشار باصبعه: «هل تقصد هذه العين؟!» ولم يكن يقصد من ذلك السؤال، بل أراد من سؤاله أن يقول لا داعي الى السؤال عن شي أصبح من الماضي «كان الماء يطفو على الأطراف، أما الآن وبعد الردم والكثير من المشروعات ومنها ميناء سلمان، قطعت العروق في البحر، وامتزج الماء الحلو بالمالح، وماتت الأحياء الموجودة في الماء، هذا الموضوع كان حكاية قديمة، طويت صفحاتها وأذيب حبرها».

سكت الجزيري لدقائق وحسبناه نسي الموضوع أو غلب عليه الوجع، ولكنه عاد ليقول: « قرب النبيه صالح، وعلى الشاطئ توجد جبال صغيرة، كان الماء الحلو ينبع من تحتها، بل وكانت النساء تغسل الأواني في هذه الينابيع، ليس عليك إلا أن تدخل يديك، وتزيح الماء المالح وسترى الينابيع تتدفق الى الأعلى، كان منها (جوجب الحلة) و(جوجب الخزنة)، ولكن لم يُبقِ الردم شيئا منها، لقد استوطنت البيوت الجديدة أماكن الينابيع كما استوطنت أماكن العيون، وربما سيأتي يوم يُهجَّر فيه أهالي الجزيرة».

ذكريات أليمة

أعدنا على الحاج عبدالله الجزيري ذكريات أليمة، ذكريات كان يحاول أن يتناساها، وبعد حديث طويل، نظر في إناء وُضع فيه رطب، أخذ إحداها في يده يتأمل فيها «كنا نزرع هذا الرطب في السابق، كنا نذوق ما تصنعه أيدينا، ولكن نحن نشتريه بالنقود الآن، لقد ذهب ذلك الزمان ولا عودة له».

الحديث مع الجزيري لا يُملّ، ولكن يكفينا أننا استثرنا فيه أوجاع الماضي، أردنا الخروج فأبى وألزمنا بالجلوس، وبعد أن وعدناه بإعادة الزيارة سمح لنا بالخروج وهو يقول:

لا تأمنِ الدهرَ إنَّ الدهرَ ذُو غِيَرٍ

وذُو لسانينٍ في الدُنيا وَوَجهينِ

في قلب الجزيرة، تجولت «الوسط» لترصد أحوال سكانها. وبينما كنا نسير أوقفتنا مياه اجتمعت في منتصف الطريق محولة المكان إلى شبه مستنقع، وحالما فتحنا الباب محاولين النزول أرجعتنا الرائحة الكريهة التي كانت تفوح منه. وعلى مسافة ليست ببعيدة كان الحاج عيسى أحمد يجلس فوق متكأ. سألناه عن المشكلات في القرية، فابتسم وأجاب «واجد حرّ... البواليع أذّت الجميع، نحن أقرب البشر إلى البحر، ولكن مع ذلك لا توجد عندنا مجاري (...) إن الجزيرة مقسومة إلى جزئين: (القرية) وهي الجزء الشمالي و(كافلان) وهي الجزء الجنوبي» وأكمل أحمد حديثه «القرية وكافلان تعانيان من هذا كله، نريد أن يضعوا لنا حلا عاجلا ويريحونا من هذه البلاوي».

وعلى رغم صغر مساحة الجزيرة، فإن مشكلاتها أكثر من سكانها كما يؤكد أهلوها. سعيد عيسى أحد شباب الجزيرة يقول: «تعاني الجزيرة هذه الأيام من الكثيز من السرقات، سرقات سيارات، وأغنام ونقود وأثاث وغير ذلك هذا إلى جانب مأساة المجاري التي لن تصل لنا».

بيوت من الحصى، بعضها يعاد ترميمه وأكثرها لايزال مسكونا، أروقة ضيقة يصعب على السيارة المرور فيها بسهولة، الماء ضعيف في البيوت كما يقول الأهالي على رغم قرب الجزيرة من محطة سترة.

يقول سعيد علي أحد الذين التقتهم «الوسط» في القرية: «الماء ضعيف جدا ومحطة سترة لا تبعد كثيرا عنا، وأراضينا الزراعية ستنتهي إلى الزوال، يأتي الناس من خارج الجزيرة ويشترون أراضينا الزراعية ويزيلون النخيل ويبنون بيوتهم (...) السرقة منتشرة هذه الايام بشكل كبير، كل ما زاد الفقر حدة زادت السرقات، ولا ندري هل اللصوص من الجزيرة أو من خارجها». وحلم الإسكان يراود شباب الجزيرة، ولكن الأمل يكاد ينتهي إذ إن المشروع طرح قبل شهور، ولكن لم يشرع فيه لحد الآن. عبدالله عيسى يقول: «قبل 6 شهور سمعنا بهذا الإسكان الموعود، ولكن أين هو هذا المشروع؟ الأراضي المحيطة بالنبيه اشتراها الأجانب، وكل يوم نرى الأراضي تقل أكثر وأكثر، فهل سيبنون الإسكان في البحر، لقد مللنا من الانتظار وضقنا ذرعا». ويواصل عيسى حديثه «الإنشاءات بطيئة جدا، وإذا لم نخلق مشكلة للمقاولين لا يتممون أعمالهم، هذا ولا يوجد تشجير في الجزيرة، فكما نزعتم هذا الجمال منها لابد أن تعيدوه لها، فلقد أصبحت كالصحراء بعد أن كانت تعجّ بالبساتين والأنواع المختلفة من الأشجار»، مؤكدا أهمية «وضع حل للسرقات».

أطفال الجزيرة

في وسط الجزيرة وُضع كرسيان متقابلان كما في المقاهي الشعبية، جلس عليهما الأطفال يلهون ويلعبون صاعدين ونازلين عنهما، ولكن هذا المكان كان لبستان انتزع من جذوره! الساحل يعج بعدد كبير من زوار المنطقة وأهالي الجزيرة الذين يقصدون البحر في كل يوم، كيف لا وقد أصبح البحر جزءا لا يتجزأ من أساسيات الحياة... بساطة الحياة تتجسد بكل معاني الكلمة في أروقة الجزيرة، الباعة بعرباتهم الخشبية يوصلون ما يحتاجه الأهالي، والحياة بكل ما فيها بسيطة. ولاستطلاع الأمور ومعرفة ما يجري على مكاتب المسئولين اتصلت «الوسط» برئيس المجلس بلدي العاصمة وعضو جمعية الوفاق الوطنية الإسلامية مرتضى بدر، وسألته عن السبب وراء تأخر وصول الخدمات إلى جزيرة النبيه صالح فأجاب «طبقا لخطة وزارة الإسكان فإنه خلال السنتين المقبلتين سيتم ربط الجزيرة بالشبكة على مستوى البحرين ككل، ففي العام 5002 سيتم ربط الجزيرة بشبكة المجاري ضمن خطة التطوير»... وبالنسبة الى تشجير الجزيرة أشار بدر «كل الأمور مرتبطة بخطة تطوير الجزيرة، وأهم مشكلة هي عدم تخطيط المنطقة من قبل وزارة البلديات، وبعد أن طرحت هذا الموضوع في لجنة الإسكان والإعمار تم وضع خطة لتطوير المنطقة (...) ونحن نقول: لابد من وضع خطة زمنية يتم العمل بها في أقرب وقت ممكن، إن لدينا حوالي 03 أرضا تابعة للأوقاف، وهذه الأراضي لابد أن تعطى لوزارة الإسكان ليتسنى لها البتّ في الخطة».

وأضاف بدر «هناك مشروع للإسكان وملاعب ومتنزهات في الجزيرة، وكلها موضوعة على رسومات شاهدها الأهالي في لقائنا بهم في مأتم البصري (...) المشكلة أن الخطة مجمدة، وقام المجلس البلدي بتشجير المساحة الواقعة أمام النادي الثقافي»... وفيما يتعلق بانفلات الأمن في الجزيرة وازدياد السرقات نوه بدر إلى أن ذلك من اختصاص وزراة الداخلية، ولابد لها من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقف هذه الأعمال، ولكنه أكد «ان ذلك مرتبط بعوامل كثيرة، ومنها ضعف التعليم في الجزيرة، وبالتالي لابد أن يشرع في خطة التطوير فورا». وخاطب بدر وزير المالية بقوله: «أين التعويضات التي وعدتم الناس بها، لقد أعطيت الأراضي إلى المتنفذين، ولم يحصل الأهالي على تعويض، الخدمات يحصل عليها هؤلاء بينما أهل الأرض محرومون من ذلك، كم مرة تكلمنا ولكن لا حياة لمن تنادي!». واختتم مرتضى بدر حديثه متفائلا «نحن في لجنة الإعمار والإسكان نحرك ملف الجزيرة أينما ذهبنا، ولن نسكت لحين حصول الأهالي على حقوقهم المشروعة. وقد أشار المسئولون الى أن المنطقة التي ستلي الدراز مباشرة ستكون الجزيرة، ونأمل أن يتم ذلك بصورة سريعة».

جمال خلاب سُرق من جزيرة النبيه صالح... بساتين حُوِّلت إلى بيوت وأندية... عيون رُدمت بعد أن انقطع ماؤها ودُمر فناؤها... بحر غطته الرمال وحجبته عن زواره... ليتناسى أهالي الجزيرة ذلك كله عندما يقصدون قبر النبيه صالح (...) أناس بسطاء مشكلاتهم كبيرة تحتاج إلى تحرك سريع.


سبب تسمية الجزيرة بالنبيه صالح

كان القيّم على المسجد الذي دُفن فيه النبيه صالح ينام فيه لحراسة الأثاث وليؤذن. وعند الفجر الأول في بعض الأحيان كان يأخذه النعاس، وإذا استغرق في النوم يسمع هاتفا وكأن شخصا ينبهه للأذان والصلاة، وحينما ينتبه لم يكن يجد أحدا، فسأل العلماء عن ذلك فأخبروه أنه صاحب المسجد ( أي النبيه صالح)، فاشتهرت هذه الرؤيا بين الناس، ولذلك لقبوه بـ «النبيه صالح»، وخففت الكلمة عند العامة إلى النبي، و«النَّبِيْهُ» من «النَّبَاهَة» وهي فرط الذكاء والفطنة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/331333.html