العدد: 2135 | الخميس 10 يوليو 2008م الموافق 06 رجب 1429هـ

تركيا... وفن الانقلاب

قد تكون هناك بضع دول حيث فن تنظيم الانقلابات على هذه الدرجة من الدقة مثل تركيا إذ تتكيف باستمرار مع روح العصر لتفرخ على مدار العقود معجمها المبهم الخاص بها مثل «الانقلاب بالمذكرة» و«انقلاب ما بعد الحداثة» و«الانقلاب القضائي» و«الانقلاب الالكتروني».

والآن تزخر الصحف (ويجدر القول إن معظمها موال للحكومة) بروايات عن مؤامرات للقيام بانقلابات أطلق عليها أسماء «القفاز» و«الفتاة الشقراء» و«ضوء القمر» وخصصت صفحات للحديث عن جماعة مسلحة مغمورة اسمها الحركي «ارجينيكون».

واعتقل قائدان عسكريان متقاعدان يفترض أنهما عضوان بالجماعة في منزليهما في مجمعات سكنية عسكرية وهي خطوة جريئة تتخذها السلطات المدنية ضد الجيش الغيور على الحفاظ على وضعه المميز.

ويصف منتقدون لرئيس الوزراء رجب طيب اردوغان هذه الاعتقالات التي طالت أيضا رجال أعمال وصحافيين بالعمل الانتقامي بسبب الخطوات التي اتخذها القضاء المحافظ لاغلاق حزبه حزب العدالة والتنمية بتهم تتصل بمحاولة تحويل نظام البلاد إلى نظام إسلامي.

وقد يشعر اردوغان الذي يواجه احتمال أن يصدر حكم ضده من المحكمة يحظر ممارسته العمل السياسي الحزبي بعدم ارتياح أيضا في هذه الليالي الحارة الرطبة لشهر يوليو/ تموز.

ولعل لهذا علاقة بالطريقة التي يتعرج فيها قطار الديمقراطية التركي على طول افريز ضيق للغاية.

على أحد الجوانب يبدو أن الكثير من الأتراك يحملون بداخلهم الخوف من الانقسامات والفوضى. وعلى الجانب الآخر الباشوات البغيضون الجبارون أصحاب النفوذ أو الجنرالات. وعند كل منعطف حاد يحتك القطار بوجه من الغرانيت أو يتمايل في غير استقرار نحو الحافة. والآن ثمة منعطف من هذه المنعطفات.

فالباشوات من خلال نظاراتهم العسكرية التركية يرون أمة يغريها اردوغان. ويقول منتقدون إن القضاء وقطاع الخدمة المدنية والجامعات وحتى الرئاسة والأجهزة الأمنية مفتوحة ليخترقها الإسلاميون. وتسلط خطوة حزب العدالة والتنمية بالسماح بارتداء الحجاب في الجامعات الضوء على المخاطر.

وينفي اردوغان أن تكون له أي طموحات في تطبيق الشريعة الإسلامية. واتجه حزبه الذي يضم اقتصاديين ليبراليين ووسطيين وقوميين إلى جانب متدينين محافظين اتجاها مواليا للغرب (يجادل البعض بأنه أكثر موالاة للغرب من الأحزاب العلمانية التي أطاح بها حزب العدالة والتنمية من الحكم للمرة الأولى في انتخابات العام 2002) مما أكسبه مكانة دولية ومكنه من بناء اقتصاد قوي والحصول على الدعم من أفراد الشعب. وهنا تكمن معضلة الباشا في نجاح أردوغان وشعبيته.

ففي كل المرات التي تدخلوا فيها في الانقلابات لم يتصرف الباشوات الذين يثق الكثير فيهم باعتبارهم حراس النظام العلماني بشكل صارخ ضد الارادة الشعبية.

ويقول البعض إن الديمقراطية ربما كانت تصبح أكثر قوة لو كان الباشوات تحكموا في أعصابهم وسمحوا لارباكان بالسقوط تحت ثقل حماقته. وسيطرة اردوغان على السلطة أقوى في كل الأحوال.

فقد كان ارباكان يتمتع بدعم نسبته نحو 20 في المئة فحسب حين انتخب وانخفضت شعبيته خلال الفترة التي كان يتولى فيها رئاسة الوزراء. أما أردوغان فحصل على دعم نسبته 47 في المئة في انتخابات العام 2007 بعد صراع محتدم مع هيئة الأركان أصبح يعرف باسم مسألة «الانقلاب الالكتروني».

فقبيل منتصف ليل 27 ابريل/ نيسان نشرت هيئة الأركان بالقوات المسلحة إعلانا على موقعها على الانترنت يحذر اردوغان بكلمات كثيرة من وضع ساعده الأيمن عبدالله غول في منصب الرئيس.

وفعل أردوغان ما لم يخطر ببال وفي اليوم التالي وجه اللوم للجيش علنا وإن كان بطريقة مهذبة. وقوت مقامرته حينذاك بالدعوة إلى إجراء انتخابات العام 2007 من موقفه بشدة. ونصب غول رئيسا في حينه. أحداث تخطف الأنفاس.

ويشير التاريخ إلى أن الخوف الأكبر الذي يطارد الجيش في مثل هذه الأوقات يكون من الانقسام... انقسام عرقي وسياسي في البلاد وانقسام داخل القوات المسلحة نفسها.

ويرى المؤمنون بنظرية المؤامرة في تركيا وهم كثر أن السبيل الوحيد للخروج من تنظيم «الدولة العميقة» يكون بسلب اردوغان أولا سلاحه الأكبر ألا وهو شعبيته.

ومن هنا تتمتع المزاعم بوجود جماعة ارجينيكون بغض النظر عن عدم توافر الحقائق بعد بمصداقية لا تقاوم.

وتتحدث الصحف عن مخطط طلاق حملة احتجاجات جماعية وتفجيرات وإطلاق نيران هذا الشهر مما يدفع بالبلاد إلى الفوضى ويقلب الشعب ضد اردوغان.

ثم جاء الهجوم المسلح الذي وقع أمس على بعثة الولايات المتحدة في اسطنبول الذي أسفر عن مقتل ثلاثة من الشرطة وثلاثة مسلحين.

وحينذاك سيستريح الجيش من أي جدل داخلي وسيضطر إلى التدخل لإنقاذ البلاد. وسيكون اردوغان قد رحل وأنقذت البلاد من خطر الإسلاميين واستعاد الجيش موقعه المميز الذي تأثر بسبب الإصلاحات الديمقراطية التي جرت في الأعوام الستة الماضية. وسيعرف اردوغان أنه إذا تخلى عن الحذر واستسلم بدرجة كبيرة لجناحه الإسلامي فمن شبه المؤكد أن الشعب وتلك الطبقات المتوسطة الصاعدة ستنقلب ضده. وحينذاك ستنتهي اللعبة.

فغريزة الباشوات ودورهم هو الشك في الأسوأ بالنسبة الى الساسة لكن في حين يسعون إلى «توجيه» الأحداث فإنهم يعلمون أن المواجهة يمكن أن تدمر الاقتصاد وتتركهم ليتجرعوا كأسا لا يرغبون فيها. وبعيدا عن هيئة الأركان فربما يكون هناك هؤلاء الأقل اعتدالا في الأعماق الأكثر قتامة «للدولة العميقة». وربما تفعل كل من الحكومة والجيش والمحاكم والمعلقين خيرا إذا كفوا أيديهم.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://www.alwasatnews.com/news/157596.html