رجلان تنافسا على حكم تونس قبل أيام. أحدهما هو الباجي قائد السبسي والآخر هو المنصف المرزوقي. الأول تسعيني العمر والثاني سبعيني. كلاهما علمانيّ الهوى، لكنهما يفترقان في الموضع منها، كما افترق ماو وستالين على صفيح الماركسية مع الفارق. بل ربما كان الأول علمانياً كامل الدسم، والثاني أقل منه لممالأته الإسلاميين.
انتصر السبسي على خصمه حين حصل على 55.68 في المئة من الأصوات (أزيد من 1.7 مليون صوت) فأصبح رسمياً رئيساً لتونس. أما المرزوقي فحصل على 44.4 في المئة من الأصوات (1.3 مليون صوت) فأصبح لقبه «الرئيس السابق لتونس». الأول كان علامةً من علامات عهد بن علي، بينما الثاني كان علامة من علامات المواجهة مع ذلك العهد.
لم يجد المهزوم (المناضل السابق) غضاضةً في أن يُهنئ الفائز (على الرغم من أنه أحد رموز العهد السابق). بل لم يجد حتى حزب النهضة الإسلامي أيّ حَرَج من أن يُبارك هو الآخر، على الرغم من أنه كان ولسنين طويلة، يظهر على أنه الضحية الأكثر تنكيلاً به مِنْ قِبَل النظام الذي كان ينتمي إليه الفائز اليوم. هذه هي تونس، وهذه هي شخصيتها.
بعد حادثة عَرَبة الخضار التي كان يقودها بوعزيزي، وتفجُّر أحداث يناير، والإطاحة ببن علي، لم يسعى المنتصرون لسن قانونٍ للعزل أو اجتثاث بشكل شوفيني. وأصبح العهد الجديد أكثر اتساعاً من السابق، بحيث ضمَّ المتهارشين على منسمٍ واحد. هذا الأمر يجعل المرء يتفكر في الأحوال التي أفضت إلى أن تكون تونس على تلك الصورة المتصالحة مع نفسها، حين لم تنزلق إلى فوضى عارمة، كما جرى في سورية أو ليبيا أو اليمن أو مصر. لقد بقِيَت تونس خضراء فعلاً.
هذا الأمر يدفعنا إلى أن نُنَقِّب فيما هو أبعد من الحاضر المرئي حيث الكُنه الحقيقي للمكان وما فيه، ورؤية العالم لذلك المكان. والحقيقة، أن تونس، ورغم أنها كانت منعوتة بالحكم الديكتاتوري في فترات سابقة، إلاَّ أنها ظلت صرحاً تعليمياً، ونموذجاً للتطور المدني في عموم شمال إفريقيا والوطن العربي، وكأنها إحدى نفَحَات الجنوب الأوربي المتأثرة هي به. لقد استطاع «الطغيان المستنير» أن ينجح في إكمال مسيرة التطور إلى حد ما.
في تاريخ هذا البلد، كانت تونس الخضراء تنطوي على فرادة واضحة، في العلم فضلاً عن عمقها الضارب في جذور الأرض، حيث يقصدها الملايين من الناس دون أن يمنع ذلك ما كانت عليه سياساتها الداخلية، وقضايا الحريات العامة من صورة بائسة لم يكن مرضياً عنها.
بلد ذو عمق حضاري كبير، سواء قبل الإسلام أو بعده، حين تأثر بدولة الأغالبة ودولة الفاطميين والدولة الرستمية في الجزائر والأدارسة في المغرب، فضلاً عن وزنه العلمي، الذي ارتبط باثني عشر موقعاً علمياً مرموقاً ومشهوداً له يُخرِّج العلماء والمتخصصين.
وقد وجدت أن المحدث والفقيه اللغوي أبا الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر الصغاني (577 هـ) صاحب كتاب «العباب الزاخر» قد وَصَفَ تونس بأنها «قاعدة بلاد أفريقية، عُمِرَت من أنقاض مدينة قّرطاجَنَّة، على ثلاثة أيام من سفاقِس، وهي أصحُّ بلاد إفريقية مِزاجاً. يُنسَب إليها جماعةٌ من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث». انتهى.
أهم ما قاله الصغاني في وصفه لتونس هي أنها «أصحُّ بلاد إفريقية مِزاجاً»، وهو وصفٌ دقيقٌ جداً. والحقيقة، أن تونس التي يتمازج فيها الأمازيغ والعرب السُّنة والشيعة والمسيحيون الأوغستينيون واليهود وبعض من الأوروبيين، صاغت لنفسها موقعاً ثقافياً واجتماعياً فريداً، ملامحه هي الانفتاح وعدم التعصب، ضمن فسحة حضارية عامة.
ما ساعد على بقاء ذلك الموقع الثقافي والاجتماعي الفريد كما ذكرت، هو صِيَغ الحكم التي حَكَمَت تونس في فترات متعددة ولغاية العام 2011. لكن ما يعنيني في كل الأحوال، هو الحقبة التي تَلَت الاستقلال العام 1956، وإعلان الجمهورية بعدها بعام، ومجيء الحبيب بورقيبة رئيساً لتونس، والتي باعتقاد الكثيرين كانت منعطفاً مهماً في تاريخ تونس الحديث.
وعندما نأتي إلى حقبة بورقيبة، فإن أحداً لن يختلف عن نعتها بـ «مرحلة الخوف» التي قُمِعَت فيها الحريات العامة، واستُخدِمَت الأجهزة الأمنية بصورة فاقعة، لكن أحداً لن يبخس حق تلك المرحلة أيضاً، على أنها كانت حاسمةً في ضرب القبلية في المجتمع التونسي، وتحويله إلى مجتمع أكثر انفتاحاً على نفسه وعلى الأغيار، ومحاولة جعله محاكياً لأوروبا، وهو يجاورها عبر المتوسط، حيث إيطاليا واليونان وغرباً إسبانيا وفرنسا.
كان ذلك بمثابة مراوح تهوية بعيدة التأثير على المجتمع التونسي، دفعت بأن لا تموت جذوة الصراع السياسي وتطور الطبقة الوسطى في تونس رغم كل شيء. وقد وجدنا كيف بدأ الخلاف بين النقابات العمالية والحكومة التونسية العام 1978، ثم ثورة الخبز العام 1984، والتي لم تندلع في الجنوب التونسي فقط حيث جيوب الفقر، بل حتى في المعاقل التي كان يُعوِّل عليها بورقيبة على أنها الرديف الشعبي له والمكنوز بالزخم العلماني.
لم يكن لنا ونحن نرى تونس اليوم وهي تنجو من التشظّي والفوضى، أن نتجاهل المشاريع الاجتماعية المنفتحة التي دشَّنتها الحقب السابقة، ولا التعليم المتين، الذي كان ولايزال يشع من قابس ومنوبة وقرطاج وسوسة وقفصة والمنستير وجندوبة والقيروان وصفاقس فضلاً عن العاصمة.
هذا الأمر لا أقوله دفاعاً عن فترة طغيان سابقة، بل لأنها وقائع لا يمكن تجاوزها، حتى ولو لم تُعجِبنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4492 - الأربعاء 24 ديسمبر 2014م الموافق 03 ربيع الاول 1436هـ
لا شك
" لم يسعى المنتصرون لسن قانونٍ للعزل " نعم " لم يسعى المنتصرون لسن قانونٍ للعزل "
حتى فترة بن علي
وحتى فترة زين العابدين بن علي هي ايضا كانت مؤثرة على المجتمع التونسي كي يكون مجتمعا متحضرا راقيا رغم قمعه للحريات
لقد غيرت نظرتنا لهذا البلد موضوعك منطقي
تحليل مبسط وضعنا في صورة وضع هذا البلد الذي بدء بشرارة الحرية والتي نتمنى ان يعم العدل والسلام ربوع تونس الخضراء وان يكون التداول السلمي للسلطة هو العنوان الرئيسي لهذه المرحلة مبارك عليكم أيها التونسيون هذه الانتخابات ونتائجها