يرتبط اسم الإسلاميين – في الغرب خصوصاً – بالإرهاب، كما ينظر الغربيون غلى الدين الإسلامي على أنه دين "شرقي" يشجع على "العنف" ولا يعترف بقيم حقوق الإنسان الأساسية. وعلى هذا الأساس فإن هناك من يحاول تقييم الحركات الإسلامية والبلدان الإسلامية على أساس قربها أو بعدها من النموذج الغربي. وأصبح إطلاق عبارات "معتدل" و"متطرف" خالياً من معانيه الحقيقية بسبب هذا النهج الخاطئ في التقييم.
الذين يقرنون الديمقراطية بالنموذج الأوروبي يتخذون التاريخ الأوروبي والقيم الناتجة عن ذلك التاريخ أساساً لتحديد تطور النوع الإنساني أو تخلفه. هذه النظرة هي التي دخلت في عقول بعض النخب الشرقية في مطلع القرن، مما حدا بها إلى الاعتقاد بأن التطور نحو الديمقراطية والتنمية يتطلب أولاً وقبل كل شيء تقليد الأوروبيين في ملبسهم ومشربهم ولغتهم لأن كل ذلك يمثل الإنسان المتطور. ولكي يكون ذلك التقليد كاملاً يلزم الإيمان "بعلمانية" المجتمع والدولة وفرض هذه العلمانية بوسائل دكتاتورية لتطوير المجتمع باتجاه النموذج الأوروبي. وقد مثل أتاتورك قمة هذا التوجه الذي بلغ فيه الإيمان بالعلمانية المطلقة درجة تفوق الأوروبيين ذاتهم. وقد غابت عن هذه النخب أن التاريخ الأوروبي خاص بأوروبا ولا ينطبق بالضرورة على غير أوروبا، وبالتالي فإن العلمانية كانت ضرورة للتخلص من سيطرة الدين الدكتاتورية في أوروبا ومن الحروب الدينية (بين الكاثوليك والبروتستانت) التي كادت تدمر المجتمع الأوروبي.
العلمانية الأوروبية كانت ضرورة تاريخية أوروبية وهي ذاتها لم تأت بوسائل دكتاتورية، وإنما كانت حركة نابعة من إرادة قوية مضادة للدكتاتورية وللعنف الناتجين من النهج الديني الأوروبي. أما الدين الإسلامي فلم يكن يوماً من الأيام كالدين المسيحي، إذ لا وجود لكنيسة في الإسلام ولا وجود لتركيبة دينية تسيطر على جميع جوانب الحياة. بل إن الإسلام على مستواه الفردي خاضع "لنية القربى" التي لا علم بها إلا الله ولا دخل لوسيط بين المرء وربه ليأخذ عنه تلك "النية" بالنيابة ويوصلها إلى الله. فإذا كانت العلمانية الأوروبية حركة فكرية مضادة للدكتاتورية وشريطة لتحقيق المجتمع المدني المسالم والقائم على حكم القانون، فإن البلاد الإسلامية بحاجة لحركة فكرية للتخلص من الدكتاتورية (بشتى أنواعها العلمانية العسكرية أو القبلية أو الطائفية) وللوصول بالمجتمع الإسلامي غلى حالة السلم الأهلي القائم على حكم القانون.
هناك إشكالية أخرى، إذ يرى البعض أن الديمقراطية ما هي إلا انتخابات دورية تنافسية، ناسين أن الانتخابات يهدف منها بالأساس حسم التنافس باتجاه تمكين الطرف الأكثر تمثيلاً شريطة عدم إلغاء الطرف الآخر وشريطة تحقيق السلم المدني/ الأهلي. الانتخابات ما هي إلا وسائل لتحقيق الهدف الأسمى، وهو نشر العدل في المجتمع وتحقيق السعادة من خلال حكومة/ إدارة جيدة ترعى الصالح العام. ولهذا فإن الانتخابات بحاجة إلى أرضية اجتماعية وثقافة تقبل هذا الطرح وتقوم على قيم ثابتة لا يمكن إلغاؤها أو مصادرتها من قبل أولئك الذين قد يصلون عن طريق الانتخاب.
ولكي تكون الديمقراطية شفافة نابعة من الأمة فإن الإسلاميين بحاجة مستمرة لتشخيص القيم الثابتة التي تعتمد عليها تلك الثقافة. وهذا القيم يستلزم تأصيلها إسلامياً بدلاً من فرضها بالقوة على طريقة العلمانية العسكرية التي فشلت في الوصول إلى هدفها الديمقراطي. والإسلاميون بحاجة لمصارحة أنفسهم وتمحيص أفكارهم وأعمالهم بما يتناسب مع فهم متطور للإسلام يعتمد على الثوابت القرآنية الداعية لتعزيز مكانة الإنسان – كل الإنسان – وكرامته وحريته وسعادته في الدنيا قبل الآخرة.
كل هذا يعني أننا بحاجة لطروحات جريئة تتعامل مع الواقع لتكوين صورة المستقبل. فكثير من الإسلاميين يلجأون للحنين للماضي من خلال تصوير طوبائي للإسلام بما تحقق خلال العقود الثلاثة الأولى في الإسلام. هذا الحنين للماضي يدفع الكثير من الحركات الإسلامية باتجاه رجعي يتخلف عن المجتمعات التي تحاول تلك الحركات قيادتها. وعلى الإسلاميين إدراك أن الاستقامة الذاتية للقيادات الإسلامية، والنيات المخلصة للعاملين لا تكفي، لأن الهدف يلزم أن لا يكون "إعادة المجتمع" إلى الفهم الطوبائي الذي يحن له البعض، بل يلزمنا التفاعل مع الواقع والتحرك باتجاه مستقبل يحفظ الثوابت ولكنه يختلف عن الماضي في الكثير من مضمونه وشكلياته.
العدد 4295 - الثلثاء 10 يونيو 2014م الموافق 12 شعبان 1435هـ