في مجموعة "السكك البصَّارة" للشاعر والمسرحي البحريني مهدي سلمان، تبرز "بصيرتان" لا يمكن أن تُغفلا. بصيرة في رؤيته للشعر من جهة، ويمكن تلمّس ذلك باجتهاد ووعي كبيرين وتأنٍّ، لم يتوافر لدى كثير من شعراء جيله أو الجيل الذي أعقبه، في سمة الاستعجال، واللهاث وراء تحقيق المشروع الأول، بغضّ النظر عن جدّيته ورصانته، والإضافة التي يمكن أن يقدّمها في هذا الكمّ والبحر اللجيّ من الإصدارات ليس في الداخل فحسب، بل امتداداً إلى الإقليم وبعده. وبصيرة اللغة التي لا تقدّم نفسها باعتبارها مجموعة من أدوات الاتصال وبناء العلاقات عبر ذلك الاتصال، من حيث تكوينها كمنتج، ومن حيث هدف ذلك المنتج في تحقيق التواصل والتعامل مع طرف استقبال لها.
يكتب مهدي سلمان بلغة لا تفتعل التأنّي، تنهمر من عفويتها المفتوحة على قاموس ليس بتلك الدرجة من الاتساع والثراء في مجموعته الأولى، ولكنه قادر على الإتيان بالمبهر، والمدهش في كثير من النصوص التي حوتْها المجموعة.
وحين أقول ليس بتلك الدرجة من الاتساع والثراء، فلا ضيْر في ذلك، طالما استطاع الشاعر أن يطوّع ما تحصّل عليه من ذلك القاموس توظيفاً للجماليّ فيه، وتمريراً للمفردة العادية وصقْلها حين تدخل تجربة النص وتكون طرفاً في تكوينه، في صورته التي نستقبلها بكثير من الفرح الغامر.
هل كان لابد من تلك المقدّمة للولوج إلى المجموعة؟ لاعتبارين نعم: الأول، يرتبط بنسق تصاعدي لدى مهدي سلمان من حيث قدرته على تطويع المفردة، متسقة مع إيقاعين: إيقاع المفردة، وإيقاع النص أيضاً على مستوييه الداخلي والخارجي، وخصوصاً في النصوص التي يبدو فيها الإيقاع، من حيث التفعيلة، أو حتى القافية في عدد من النصوص، رتيباً بسبب أن المفردة هي المهيمن والمسيطر على النص، صوراً، واستعارات، وتشبيهات، ورؤية في نهاية المطاف وما يرتبط بكل ذلك.
الثاني، له علاقة بتجنّب مهدي سلمان إعادة إنتاج النصوص؛ سواء من خلال تكرار المفردة، ضمن القاموس الذي يمتح منه، وكأنّ النصوص يفصل بينها برزخ زمني، أو حتى تكرار التفعيلات وهي لمّا تتجاوز اللغة التي أنجز من خلالها الشاعر عدداً من نصوصه.
تلك الفترات الزمنية المتباعدة تمنح الشاعر قدرة على تنشيط وتنويع وإثراء قاموسه من جهة، والخروج بأشكال ومضامين في النص لا يشبه بعضها بعضاً؛ ما يتيح حيوية وتحوّلاً في النص؛ الأمر الذي ينعكس تحوّلاً وقفزات يمكنها أن تعطينا مؤشراً لمدى تجاوز الشاعر لتجاربه السابقة، من حيث علائقها جميعاً.
مجموعة "السكك البصّارة" تتكوّن من رميات خمس، تتضمّن عدداً من النصوص، ففي الرمية الأولى: إنها الأرض، إيقاع، سواك، غيمة من سكوت المرايا، العكّاز، السواد الذي يتقعّر في حافة الكلمة، ذوبان الجليد، عن عابر قلب، راثياً، أول التكوّن، خزفية، نشوة، أغنية صغيرة، خطى ولادة، على استحياء، انطفاءات. أما الرمية الثانية فتتضمن النصوص: وجهٌ بومضة، سكْرة تتشهّى مريدين، مختصر إفادة المتنبي، نبيذ ثالث. وفي الرمية الثالثة: زواجٌ.. زواجٌ من الطين، تداخل أصوات، كوّة ضوء على شفة الحريق. لتأتي الرمية الرابعة (عِرق العبيد)، وتتكون من: أسماء آدم، قيود وحشي.. خلخال الشيطان، ألها قمر غير هذا؟، مهلاً.. قد اعشوشب العرش. وتنتهي المجموعة بالرمية الخامسة وتتكون من: اثنان، أعمى الشمس، أغنّي فقط .. لتنام، كتابة، مصارحة، وموصولة بالقناديل.
في الرمية الأولى، ونص "أول التكوّن" نقرأ:
كالطين..
إذ يتعرّق الموتى
انحنيت
إلى اصطحاب الريح
تفرك إصبعيها في نخالة جثتي
يبدو النص منهمراً، سيّالاً، لا تحتبس فيه المفردة، ولا تحضر متطفّلة لاستقامة الإيقاع. المفردة هنا تقود الإيقاع. اللغة خطام الإيقاع إن صح التعبير، لا تترك له فسحة أن يلهو لأنه يريد ذلك فحسب، وعلى حساب ضبط تتولّاه اللغة وتكون راعينه والعين الساهرة على جدواه. لكل شيء سبب وجدوى. في النص السبب ألا تتسيّد الفوضى لذات الفوضى. وحتى في حضورها ثمة ضابط لها: اللغة في رؤاها البعيدة الدّالة المدلّة، اللمّاحة حيناً، والماكرة حيناً آخر، بذلك الختل والمواراة والغموض الذي هو بعض وسامتها في النص.
في الرمية الثانية، نقف على نص "سكْرة تتشهّى مريدين"، وربما يكون هو قلب المجموعة ونقطة مركزها، لما احتواه من لغة متحوّلة في حيويتها وانثيالها، بسيطة في مواضع، ومرتهنة إلى الغموض في مواضع أخرى، وفي المواضع تلك ثمة لغة بكل أدواتها التي تحتاج في النص تطلع متماسكة، قادرة على وضعنا في حال من الترقّب والاندماج، في نفَس شعري يكاد لا ينقطع، ولو تبدّى ما يشبه الركون إلى القافية في عدد من المواضع، ولكنها استراحته التي ارتأى، وإن لم تبْدُ لنا كذلك. في النص المذكور من الرمية الثانية نقرأ:
"حافٍ.. تجلّله يدٌ بيضاء، أطرقَ لحظة.. ومضى إلى أعماله الأخرى بناصية القيامة، لم يودّع سجنه أو نكهة القتلى بشارع قتله، فهناك ينتظر الصديق صديقه الآتي من الإسفلت.. أو من طلقة الطرقات أو من عندَم الأعداء أو من صرخة تندسّ بين جبينه وعويل امرأة يبكّتها العدم"...
علينا ألاّ نغفل هنا، تتبّعاً للنصوص في هذه المجموعة وغيرها مما أصدر الشاعر الجميل مهدي سلمان، أنه استفادة بشكل واضح وفي صورة كبيرة من تجربته في المسرح على اختلاف ما قدّم من خلاله، في المشهدية التي لا تخلو منها نصوصه. ثمة معاينة وتمثّل في كثير من مفردته والتوظيف الذي ينجزه، والبناء المتقن والهادئ الذي يحرص عليه. تلك الاستفادة، والرفد تتيحان له إتقان نصوص تكون على تماس مع الإدهاش بعذوبة صورها، وشفافية لغتها، وإتقان بنائها.
كأنها "مسْرحة للشعر"، تماماً كالدخول في حالة شعرية ساعة تجسيد مشهد على المسرح.