ما يجري اليوم في ليبيا مؤلِم. ليس مؤلماً فقط، وإنما خطير بما يكفي لأن نقول إن البلد مقبلٌ على كارثة. فحين يتم الإعلان عن «فدرلة الأرض والبشر» ابتداءً من برقة في الشرق، والتي تستحوذ على زهاء نصف الأرض الليبية، و66 في المئة من مواردها، و25 في المئة من سكانها، فهذا يعني أننا مقبلون على تآمر يقوده الداخل، وبرضاه، وعلى يديه وضد ناسه ومستقبله.
ليبيا هي رقبة إفريقيا وترْقُوَتها. وهي تمتلك أطول ساحل أوسطي من بين كلّ المتشاطئين عليه، حيث تصل حدودها البحرية فيه إلى 1.955 كم. كما أنها الجوار الشمالي الإفريقي الأوسع المطِل على جنوب أوروبا المقابل، حيث إيطاليا وجزيرة كريت خامس أكبر جزيرة في ذلك المتوسط، والمجاورة من جهة الجنوب باتجاه بحر إيجه. لهذا، كانت ليبيا ممرًا مهمًا وحساسًا لأقوام وحضارات خَلَت، كانت تركب المتوسط كالفينيقيين والأيبيريين والأغريق وكذلك الروم.
اليوم، بَانَت سَوءَة السياسة على ليبيا. كلنا استبشرنا خيرًا عندما سقطت فروة الدولة الليبية، التي كان يتسيَّد عليها العقيد مُعمَّر القذافي ونظرياته التبسيطية للحكم. وقلنا، إن الثوار قد ارتكبوا ما لا يُفترَض عليهم أن يرتكبوه، على رغم أن التغيير عادة ما يُنتج صرعات حالة الانتقال كالتي رأيناها. لكن، أن يجنَح الثوار، أو سياسيو الثورة الليبية باتجاه تفتيت البلد، فهذا ما لا يُصار إلى أن تخريجة سياسية أو فكرية يُمكن أن تفهَم أو أن تبَرَّر.
أقسى ما على القلب، أن نسمع مَن يقول، أن نظام العقيد القذافي كان قد منَعَ حالة التشظي والتفكك من أن تطال التراب الليبي طيلة أربعين عامًا من حكمه الدموي. فهو الذي جعل من طرابلس الغرب وبنغازي ومصراتة والبيضاء والزاوية وطبرق وسبها، وشرق البلاد وغربها وشرقها وجنوبها أن تبقى متماسكة. وحافظ على القبائل، لأن وحدتها من عين كثرتها وتنوعها. هذا الأمر وللأسف، يتم تعيير الثورة والتغيير الحاصل في ليبيا اليوم به.
إن إبعاد المفاضلة ما بين نظام شمولي فاشل زائل، وبين نظام ثوري تغييري قادم، هو من أهم الواجبات التي كان يجب على الليبيين في المعارضة أن يُدركوها بعد استلامهم السلطة، وما عداه قابل للنقاش. في الحالة العراقية، كانت الخشية من أن يأتي زمان يقول فيه العراقيون إن عهد صدام حسين أرحَم علينا من أن نرى أولادنا ترمَى في مكبَّات القمامة جثثاً وقد استقرت رصاصة في أصداغهم. وقد جاء ذلك الزمان في ذروة القتل والتنكيل بالناس عبر التفخيخ.
اليوم في ليبيا، بدأ إسفين مشابه، نتمنى له أن يُزال قبل أن يُوشِمَ الجلد. فأولى مهمَّات الدول، هي أن تحافظ على نسيجها، وتبني هويتها. الهوية، التي أصبحت البلدان تقاس بها نجاحًا وفشلاً، لتصبح الولايات المتحدة الأميركية، وهي أعظم قوة في العالم، تفشل في مسألة الهوية، وذلك بسبب النثار الأقوامي والعرقي المتناثر على ولاياتها الاثنين وخمسين، والذي يؤثر بشكل كبير على مسألة الانتماء إلى الغطاء الأشمل للدولة/ الأمة دون منافس فرعي.
وعندما تتعثر مسألة الهوية للأوروبيين، فيصبح جزء من سويسرا ناطقاً بالفرنسية، وآخر بالألمانية، وثالث بالإيطالية، ورابع بالرومانشية، وهولندا مقسَّمة كذلك، فلأن الحروب الدينية التي طحنت القارة الأوروبية طيلة قرني الخامس عشر والسادس عشر، كانت سببًا في تغيير البنى الاجتماعية والدينية لتلك المجتمعات، فلم تجِد سوى هذه التقسيمات في اللغة والجغرافيا، وثم الفدرلة، لكي تستقيم أحوالها، وتنتقل من حالة الحرب إلى السلم والتعايش.
لكننا، وفي عالمنا العربي، نحن نتحدث عن بقعة جغرافية ممتدة من نواكشوط إلى جنوب القارة القديمة. وهي البقعة التي لا يرى فيها أحد من متغيرات اللغة والثقافة شيء يُذكر. منطقة متجانسة بشكل كبير في الدين واللغة والثقافة، وتمتلك معيارًا تاريخيًا لوحدة المصير، وبالتالي فإن هذا التجانس يمنح دول هذا المحيط وكياناتها فرصة الانفتاح الداخلي على مفهوم الدولة المركزية بأقصى ما يُمكن. أما حين يتمّ العكس، فينتصر التشرذم على الالتئام فهذا يعني أن المسألة فيها الكثير من سوء الإدراك لمسألة الهوية، ولمسألة المشتركات العامة للشعوب، والتي لا تتطلب في مثل هذه العادات سوى الوحدة الحقيقية.
ليبيا اليوم، بإمكانها أن تتشبَّه بالشعوب المقسومة على نفسها، لكن ذلك التشبُّه سيخلق حالة من عدم الانسجام، ما بين الصِّفة والموصوف، لأن ثيمات ذلك غير متوافرة أصلاً. كما أن ذلك التقسيم الذي سيتم بالإكراه، سيُثوِّر أنوية هي بالأساس غير محتربة، ولا متخاصمة، وليست بينها معركة، وبالتالي فإن ذلك، سيفتح لها عناوين للمعارك، سواء أكانت تلك العناوين ستتم على الثروة وأحجامها والمستفيدين منها، والتي ستكون متناثرة على بواطن الأقاليم، أم سيتم الخلاف على نسب التمثيل الإداري في السلطة المركزية.
في كلّ الأحوال، فإن المهم الآن من المجلس الانتقالي الليبي هو جعل الشعب الليبي يحس، أن التغيير الذي حصل ضد نظام القذافي، هو تغيير لصالح الوحدة وليس للتشتت. ثانيًا، يجب ألا نسمح بأن تتم مقارنة التغيير مع الأسوأ، والذي حَكَم ليبيا طيلة أربعة عقود، لأن في ذلك ظلمٌ مُحقق على مفهوم التغيير والثورة، والانتقال إلى الديمقراطية. وثالثًا والأخير، هو استخدام ما أمكن من وسائل، لجعل البلد متماسكاً، لأن التفريط في ذلك، هو تفريط في مستقبل وقوة ومصالح ليبيا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3472 - الجمعة 09 مارس 2012م الموافق 16 ربيع الثاني 1433هـ