العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

الأمر الشرعي قَلَّ أن يخالف الأمر الوجودي

ابن خلدون ومسائل الفقه الإسلامي وتاريخه

تشكل تجربة عبدالرحمن بن خلدون (توفي 808هـ/ 1406م) مادة مثيرة لتحريك السجال بشأن مسألة الفقه الإسلامي وصلته بالدولة. فابن خلدون وظف علومه لقراءة تجربته السياسية واشتغاله في القضاء وأعاد توظيف تجربته لتطوير علومه، فصاحب المقدمة الشهيرة اشتغل في السياسة وتبوأ أعلى المناصب في عهد الإمارة المرينية في المغرب (الحجابة) قبل أن يدون تاريخه. ثم اعتزل السياسة وتفرغ للكتابة وارتحل إلى مصر واحتل كرسي المذهب المالكي في القاهرة ومارس من خلال منصبه وظيفة القضاء والفتيا في العهد المملوكي. فتجربته السياسية - القانونية اسهمت في تطوير وعيه الدستوري فاكتشف اهمية الفقه في ضبط الدولة وتوازن صلتها بالجماعة. فالدولة عنده صورة والعمران مادة، ولأن الدولة صورة العمران فهي الأكثر تأثيراً في تطوير (تعديل) مادتها.

وضمن هذه الرؤية العامة وضع ابن خلدون تصوره الفلسفي لقراءة العمران (المجتمع) وتاريخه وفي التقاط الصلة بين عمران البشر ودستورهم. فمحرك الدولة هو العصبية وروح العصبية هي الشوكة (الطاقة الداخلية)، بينما الشرع هو محرك العمران وتاريخ الأفكار ليس معزولاً عن تاريخ البشر (العمران). فحين يكثر العمران تزدهر الصناعات (الأفكار عنده صناعية ومكتسبة) وعندما يتراجع تنهار الصناعات والعلوم.

وعلى هذا القياس رأى ابن خلدون أن الأمر الشرعي قَلَّ أن يخالف الأمر الوجودي فهناك ما يشبه التطابق بين الأمرين وإذا اختلفا لابد من تسوية العلاقة (الصلة) بن الطرفين. فالوقائع (الحوادث) عنده متجددة «لا توفي بها النصوص» (المقدمة ص 477).

لذلك وقع الخلاف بين الأئمة وانقسم الفقه (عند المذاهب السنية) إلى طريقتين: أهل الرأي والقياس (مدرسة العراق) وأهل الحديث (مدرسة الحجاز). فالخلاف الفقهي عنده ليس على النص بل على تفسيره نظراً لاختلاف بيئة المفسر أو الشارح أو القاضي. والاختلاف بين الأئمة رحمة للجماعة لأنه يجيز إعادة تفسير النص ليستوعب «الوقائع المتجددة» بالأدلة من غير النصوص. فالنص المنزل ثابت بينما ادلة الاستنباط أو الاستقراء فهي مختلفة تبعاً لاختلاف البيئة أو الزمن أو التركيبة الاجتماعية للبلاد. فابن خلدون يرى أن هناك عناصر اجتماعية وراء انتشار المذاهب واختصاص كل مذهب باقليم معين. فهو مثلاً يرى أن سيادة المذهب المالكي في بلاد المغرب (والاندلس قبل سقوطها) يعود إلى تشابه الطبيعة البدوية لأهل تلك الديار مع أهل الحجاز، بينما انتشر المذهبان الحنفي والشافعي في مصر وبلاد الشام والعراق بسبب من طبيعتهم العمرانية الحضرية. (المقدمة، ص 481). فالاجتماع (العمران) له صلة بالصورة (الدولة) وصورة الدولة تتشابه مع واقعها. فالوجودي والشرعي لا يختلفان إلا قليلاً والتطابق النسبي بينهما يفترض ضمناً التقارب بين الأمرين. فانتشار المذاهب لابد من أن يتوافق، بحسب «علم العمران» الخلدوني، مع طبيعة البلاد (عصبيتها وبداوتها) واجتماعها العمراني. فالفقه عنده نقلي، وعقلي، وخلافي، ووجودي (واقعي)، وتطوري (تاريخي)، ووظائفي (علائقي) وأخيراً هو روح الدولة (دستورها) التي هي اساساً صورة العمران (الاجتماع).

تاريخ العلوم النقلية

كيف توصل صاحب المقدمة إلى هذه الهيكلية التركيبية في فهم الفقه وصلته بالدولة والعمران؟

قرأ ابن خلدون التاريخ على المستويين الفكري والبشري وبحث عن صلتهما بالدولة وتاريخ تطورهما وتأثيرهما المتبادل بدءاً من العناصر الأولية (البدائية) وانتهاء (في عصره) إلى الاستقرار الحضري وتقلب الزمن واختلاف عاداته وحاجاته صعوداً وهبوطاً (العصبية والدولة). فالإنسان عنده جاهل طبعاً، وعلم البشر هو «حصول صورة العلوم في ذواتهم» (المقدمة، ص 503). وإذا كان الإنسان جاهلاً بطبعه فإن علومه تتحصل بالكسب، وأهم ادواته العقل. والعقل برأيه على 3 مراتب: التمييزي، والتجريبي، والنظري (المقدمة، ص 505)، وللعلوم مقاصدها إذ يهدف ادراك المعارف إلى ثلاثة أمور: تصور الحقائق، اثبات العوارض أو نفيها، واستنتاج الفكر في اثباته ونفيه (المقدمة، ص 614). وكل هذه الأمور تحصل بالكسب، لأن العلوم عنده من الصناعات وهي تكسب صاحبها العقل (الوعي) وتكثر عندما يكثر العمران وتقل بتراجعه.

والعلوم عنده تتوزع على دائرتين: طبيعية (يهتدي إليها الإنسان بفكره) ونقلية (يأخذها الانسان عمن وضعه). ويضع كل «الشرعيات» من الكتاب والسنة وعلوم اللسان في الدائرة النقلية. ومن (الشرعيات) تتفرع علوم التفسير والقراءات والحديث وأصول الفقه (المقدمة، ص 467). ومختلف «الشرعيات» تحتج بالأدلة العقلية التي تستخدم علوم الكلام واللسان (اللغة، النحو، البيان والأدب).

ويفصِّل ابن خلدون كل علم من علوم «الصنف النقلي». فهناك كلام الله المنزل، وهو «متواتر بين الأمة»، وهناك فن القراءات، الذي استقر على «سبع طرق معينة»، ثم فن الرسم، وهو «أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية» (المقدمة، ص 468 - 469).

بعد القراءات والرسوم جاء التفسير، بعد رحيل جيل من الصحابة، وهو علم وضع لحاجة محددة فرضها على الجيل المتأخر من الصحابة غموض بعض الآيات وعدم فهم مفرداتها وتراكيبها وأسباب نزولها عند الاجيال اللاحقة، وصار التفسير على صنفين: نقلي (مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف) ولغوي (يعتمد الأعراب والبلاغة لتأدية المعنى بحسب المقاصد والاساليب). (المقدمة، ص 471).

بعد التفاسير جاءت علوم الحديث وهي «كثيرة ومتنوعة» وأصعبها معرفة «الناسخ والمنسوخ» خصوصاً «إذا تعارض الخبران بالنفي والاثبات»، لذلك تم ضبطها وترتيبها وتوزيعها إلى صحيح وحسن وضعيف ومرسل ومنقطع ومعضل وشاذ وغريب. فعلوم الحديث بدأت بالنقل الصرف وصولاً إلى تحري الصحيح وتصنيفها إلى أن تم الاتفاق على الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما. (المقدمة، ص 472 - 476). ومن علوم الحديث تشكلت مدارس عدة ابرزها في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر. وبعد علوم الحديث جاء علم الفرائض (القضاء) الذي يجمع بين المنقول والمعقول. ومن مجموع تلك الفروع النقلية ظهر الفقه، وهو «معرفة الله تعالى في افعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والاباحة» فإذا «استخرجت الاحكام من تلك الادلة قيل لها فقه». (المقدمة، ص 476). وانقسم الفقه إلى مدرستين: أهل الرأي والقياس، وأهل الحديث، بينما انكرت «طائفة الظاهرية» القياس وأبطلت العمل به وأخذت بظاهر النص، كذلك انفرد «أهل البيت» بفقه خاص بهم. (المقدمة، ص 477).

يدرس ابن خلدون كل فروع العلوم النقلية وفق رؤية تاريخية ليكشف عمليات الانفصال والاتصال بين مختلف «الشرعيات» وعلائقها وتأثيرها على العمران وتأثير العمران عليها. فالزمن عنده هو الثابت الذي يغير ولا يتغير فهو يرفع الدول ويسقطها وهو ينتج المعارف ويعطلها ودائماً بحسب حاجات الناس ومتطلباتهم، فمع الزمن مثلاً اندرس فقه أهل الظاهر ولم يبقَ «إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز» إلى أن جاء محمد بن ادريس الشافعي ومزج بين الطريقتين (المقدمة، ص 478). بينما اختص الامام أحمد بن حنبل بمذهب آخر، إلى أن توقف التقليد عند أهل السنة «عند هؤلاء الأربعة» (المقدمة، ص 479)، وهم: ابو حنيفة، مالك بن أنس، الشافعي وابن حنبل.

وعلى اساس هذه المذاهب تم وضع اصول الفقه، وبرأي ابن خلدون ان اصول الفقه. «من أعظم العلوم الشرعية» لأنها تنظر «في الادلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الاحكام والتكاليف» (المقدمة، ص 484). وأصل الادلة هي الكتاب، والسنة، والاجماع والقياس.

تاريخ القياس

يعطي ابن خلدون أهمية خاصة للقياس ويقرأ تطور استخداماته زمنياً ودور كل فقيه في تطوير ادلته بالجمع أو التفريق. فالقياس في فقه اهل السنة، هو رابع الادلة، ومن اهم قواعد الفقه «لأن فيه تحقيق الاصل والفرع»، وهو من «الفنون المستحدثة»، وأول من كتب فيه الامام الشافعي وفقهاء الحنفية. وكتب فيه ايضاً المتكلمة مع ميل لديهم إلى «الاستدلال العقلي». (المقدمة، ص 487).

وأبرز من أسهم في تطوير قواعد اصول الفقه كان فريق المتكلمة من الشافعية (الاشعري في مقالاته، الجويني في كتابه البرهان، والغزالي في كتابه المستصفى) والمعتزلة (القاضي عبدالجبار في كتابه العهد).

بعد هؤلاء جاء فخر الدين (الرازي) ابن الخطيب فلخص الاوائل في كتابه «المحصول» ومال فيه إلى الاكثار من الادلة والحجج، وفعل الأمر نفسه سيف الدين الآمدي في كتابه «الاحكام» ومال فيه الى تحقيق المذاهب وتفريغ المسائل. وبجهودهما إضافة الى جهود الأموي والأرموي والقرافي والبيضاوي وابن الحاجب تنوعت اصول الفقه وطرقه الى أن برز من مذهب الاحناف (ابو حنيفة) الدبوسي من المتقدمين والبزدوي من المتأخرين فجاء ابن الساعاتي (من فقهاء المذهب الحنفي) فجمع بين الآمدي والبزدوي في كتابه «البدائع» الذي يعتبره ابن خلدون «من احسن الاوضاع وابداعها». (المقدمة، ص 488).

كان صاحب المقدمة يدرّس بدائع ابن الساعاتي (الحنفي) لتلامذته وهو قاضي المذهب المالكي في القاهرة بسبب ميله العقلي الى مدرسة الرأي والقياس العراقية وهي التي كانت على خلاف مع مدرسة الحديث الحجازية لمؤسس المذهب المالكي (مالك بن أنس). ولا يشير ابن خلدون في مقدمته الى امام المالكية في زمانه الإمام الشاطبي الذي نجح في تطوير القياس الفقهي في كتابه «الموافقات» باستخدامه «المصالح المرسلة» في إطار تأسيسه لمنهج «المقاصدية أو ما يعرف بالفكر المقاصدي (مقاصد الشريعة الإسلامية). واهمال ابن خلدون للإمام الشاطبي ربما يعود الى خلاف شخصي وقع بينهما في المغرب قبل انتقاله الى مصر أو احتمال عدم اطلاعه على كتاب (الموافقات) الذي احدث ثورة فقهية كبرى في المذهب المالكي وأنقذه من التلاشي أو الضياع بسبب اختلاف الزمن وتبدل عاداته. فالاختلاف عند ابن خلدون هو أصل مسكوت عنه من اصول الفقه الإسلامي، والمسائل الخلافية بين أئمة الفقه والمجتهدين هي، برأية، التي احتج «بها كل على صحة مذهبه». فأحياناً يتوافق الشافعي ومالك في مسألة ويخالفهما ابو حنيفة، وأحياناً يتوافق ابو حنيفة والشافعي في مسألة ويخالفهما مالك. فالخلافيات عند ابن خلدون علم، وهو علم مفيد «في معرفة مأخذ الأئمة وأدلتهم». ونجح ابن الساعاتي في تبويب «الفقه الخلافي» وجمعه في مختصره في اصول الفقه، وهو الكتاب الذي اعتمده صاحب المقدمة لتدريس تلامذته.

يتوقف ابن خلدون في مقدمته عند ابن الساعاتي ويهمل الإمام الشاطبي وانجازاته النوعية في تطوير اصول الفقه وتأسيسه لقياس جديد مستنداً الى موضوع «المصالح المرسلة» عند الإمام مالك و«المسائل الافتراضية» عند ابو حنيفة لاستخراج علمه الفقهي الذي عرف لاحقاً بالمنهج المقاصدي. وهو منهج رتب سلسلة اجابات معاصرة عن أسئلة عصر الشاطبي (توفي 790هـ/ 1388م) في اقصى المغرب والاندلس حين حدد مقاصد الشارع في خمسة من الضروريات: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وحشد كل الآيات التي تتشابه في الموضوع في باب واحد من تلك العناوين الخمسة، من دون ان يغرق في تفاصيل نصية تكرر بعضها في أكثر من مكان.

إذا استثنينا هذه الثغرة، ويرجح انها نتاج نفور ابن خلدون الشخصي من الامام الشاطبي، يمكن القول إن مفهوم الفقه عند صاحب المقدمة يتميز بالحيوية. فهو دعا الى التجديد بجمع الاصول (الموروث) الى الوافد (الجديد). ورأى أن «الوقائع المتجددة» تفرض على الفقيه اعادة قراءة النص ليستوعب الحادث ويدرجه في سياق تطور الجماعة العمراني. فتغير وقائع العمران يملي على الفقيه (القضاة ورجال الدولة) استقراء النص احياناً واستنباطه احياناً أخرى للحصول على اجوبة حديثة لوقائع جديدة. وحيوية الفقه تبدأ من تلك النقطة التي انطلق منها ابن خلدون وتوقف عندها، باسطاً الفقه في سياق تاريخي متحول لا يتنكّر للثابت ولا ينساق للمتغير بل يدمجهما في وعي مركب يدرك تاريخ اللحظة... ولحظة تجاوز

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً