خلصتُ في مقال سابق إلى ضرورة عناية العالم العربي بالعلاقات مع تركيا. وكانت الدواعي في ذلك استراتيجية في جُلّها، ثقافية في بعضها. وفي جلّ الأشياء وبعضها تتكامل الحاجة لتصبح ضرورة مُلحّة.
في متطلبات الفهم العربي للمزاج التركي يجدر بنا الإحاطة بما يجب أن يُحيط به الحليف والخصم معا في العلاقات الدولية. وربما تأفّف العرب إبّان الحرب العالمية الأولى من الأتراك نتيجة ظروف السلطنة وسلوكياتها تجاهمم، إلاّ أن ذلك لا يعدو كونه حالة خاصة جرت في ظروف مُحدّدة لم يعد لها وجود اليوم.
وأيضا لربما عَزَفَ الأتراك عن تواجدهم في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد في المنطقة العربية، رابطين ذلك بعمليات التحديث والتغريب التي سَعَتْ إليها الكمالية الأتاتوركية بشكل غير صحيح. وهي أيضا حالة لم تعد موجودة اليوم.
والطرفان هنا كانا يُمارسان خطأ استراتيجيا معطوفا على شعور بالغبن التاريخي المبالغ فيه. فقيام الدولة البابوية والسلجوقية والعثمانية لم يكن ليتمّ لولا دخول الإسلام الذي كان يحمله العرب آنذاك. والأتراك لا يُنكرون ذلك البتّة.
والعرب بدورهم لا يستطيعون إنكار ما أعطوهم الأتراك باتحادهم معهم في انصهار حضاري، حين جوّدوا من أجهزة الدولة الإسلامية وفي العسكرتاريا أيضا. وهنا يجدر بالطرفين أن يُدركا ذلك. ففي مثل هذه الانصهارات والتأثيرات المتبادلة تُصبح العلاقة أكثر امتدادا ورسوخا.
على أيّة حال، فضرورة الحديث اليوم بالنسبة للعرب هو إدراك ما يريده الأتراك، أو بالأحرى ما يحتاجونه من العالم العربي، لكي تتأسّس العلاقة على نظام للمصالح المتبادلة. فالظروف الحالية تقتضى بالعالم العربي الفهم بأن نظرية تشتّت القوة الدولية قد بدأت بعد بروز عدّة عوامل.
وجود إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض، وأنظمة يسارية في أميركا اللاتينية، وخلاف أميركي أوروبي بشأن الأزمة الاقتصادية، وتصدّع حلفاء الغرب في لبنان وفلسطين. وتغيّر بوصلة روسيا البيضاء وقرغيزستان بعد توقيع الأولى اتفاقا عسكريا مع موسكو وطرد الثانية للأميركيين من قاعدة مانس الجوية، وخلاف مولدافيا مع بلجيكا بشأن برنامج شراكة شرقية أوروبية، هي كلّها أمارات التحوّل الدولي وتشتّت القوة المذكورة.
هذه الظروف تُؤسس لمرحلة حسّاسة في العالم لكنها تعطي أيضا فرصا جيدة لتحقيق المزيد من المكاسب. وبالتالي فإن الدول العربية مُطالبة لأن تُعْمِل سياساتها من منطلق هذه الظروف، معطوفة على حاجات الأمن التركي ومصالحه باعتباره حديث المقال.
وهنا أتطرق إلى نموذجين اثنين يُمكن للعرب العناية بهما في إقامة أيّة علاقة استراتيجية مع تركيا.
يُمثّل الأكراد هاجسا أمنيا كبيرا لأنقرة. وقد عَمِلَت تركيا العلمانية في كلّ مراحلها على جعل المسألة الكردية أولوية الأولويات بالنسبة لها، بدءا من وضعها الدستوري في جميع التعديلات التي أجرِيت عليه (1924، 1961، 1982) وانتهاء بالتعامل العسكري والثقافي معهم. وكان الأكراد يعتبرون ذلك بمثابة معادلة ثلاثية لا غير: الإنكار، الصهر، القمع.
وللتدليل على ما نقول فقد حَظَرَ دستور العقد الثاني من القرن المنصرف اللغة والعادات واللباس الكردي، وتُرِّكَت أسماؤهم ومُدنهم وقُراهم ومحلاتهم. ومُوِّلَتْ دراسات مُعمّقة للتوصل إلى أن أصول الأكراد هي أصول تركية. ونقل المجاميع البشرية الكردية إلى العُمق التركي والعكس (راجع ما كتبه كاموران جيكيكان في هذا المجال).
في هذا السياق فإن وجود خمسة عشر مليون كردي في تركيا يعني أن الموضوع مُتجاوز للظروف السياسية بحكم العدد الكبير للتمثيل الاجتماعي والديموغرافي. لذلك فإن أنقرة تُحاول ما أمكن تمزيق أية روافد محيطة قد تُعظّم من قوة الأكراد في جوفها.
هنا يأتي الدور العربي. ففي العراق يوجد ما يقارب الستة ملايين كردي وهم على تخوم تركيا، وبالتالي فهم لا يُشكلون رقما ضمن المجموع العراقي فقط، وإنما يُشكّلون رقما أكبر داخل الديمغرافيا الكردية المتجاوز عددها الكُلّي للخمسة والخمسين مليون كردي.
وإذا ما علِمنا أن تركيا ترى أن عمقها يصل بخطّ مستقيم إلى ميناء البصرة مرورا بالخليج ووصولا للمحيط الهندي في الجنوب، وشرقا صوب شمال وشرق المتوسط، فإن الأمر يعني الطرفين لا محال. العرب والأتراك. يملك العرب الجغرافيا المُحقِّقَة للأمن التركي.
ولأن تركيا في حالة حرب شبه دائمة مع مؤتمر الشعب «PKK» والحزب الاشتراكي الكردستاني
«PSK». فإن التعامل مع وجودهما في شمال العراق ومسألة تحصّنهم في الجبال يُمكن أن يُشكّل قيمة براغماتية مزدوجة قد يقطف نتائجها العرب.
وربما أعاد السوريون حساباهم بعد صِدامِهم العلني مع حكومة مسعود يلماظ نهاية التسعينيات بسبب قضية عبدالله أوجلان، وبالتالي فإن المعادلة تقتضي التالي: تواجد دبلوماسي عربي قوي في العراق، يدعم الحكومة المركزية في بغداد أمام قدرة إقليم كردستان، وبالتحديد عنفوان الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وما يُشكله من حاضنة مادية ومعنوية لأكراد تركيا المُسلّحين.
واتجاه عربي آخر يسير صوب الولايات المتحدة لضمان حصول تفويض وضغط أميركي يدعم التحرك العربي، وبالتالي يتم التعامل مع القضية الكردية في كردستان على أنها مسألة عراقية بحتة لا يُمكنها أن تتصل مع بقية المجموع الكردي في المنطقة.
ما قاله مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان مؤخرا من أن البرلمان الكردي قرّر «الاتحاد الاختياري مع عراق يلتزم بالدستور» هو غير كافٍ في ظل وجود اشتراطات، وفي ظلّ تخلّي الـ PKK عن الاستقلال التام والدعوة إلى «مواطنية كُردية في تركيا» أصلا.
إن سعت الدول العربية لتحقيق ذلك الخط الأمني الاستراتيجي فإنها بالتأكيد ستكسب علاقات متميزة مع تركيا يزيد فيها هامش المصالح والتجارة البينية، بالإضافة إلى أنها ستكسب موقفا إيرانيا مُرحّبا لأن ما سيجري سينعكس حتما على حزب بيجاك الكردي الإيراني المعارض.
وهنا يجب التنويه أيضا أن ذلك الأمر هو ليس تلاعبا بمصير القومية الكردية، أو استخدامها في مساومات، بقدر ما هو ضبط لحالة كردية تعيش في محيط عربي واسع، يحتاج إلى منظومة مصالح تُدعّم من خياراته الإقليمية.
يعتقد الأتراك بأن جغرافيتهم تلعب دورا محوريا في تقدّم سياساتهم وتحقيق المنسوب الأفضل لأمنهم القومي. فالطريق الأنسب بالنسبة لهم للوصول إلى القوقاز وشرق الأناضول وبلاد الرافدين هو الممر السوري.
كما يرون في شرق البحر المتوسط منطقة تقاطع استراتيجية لحدودهم البرية، ونقطة بحرية «تُطوّق خط البحر الأسود والمضائق المائية وبحر إيجه وخط الأدرياتيك وجزيرة كريت وقبرص والسويس والبحر الأحمر والبصرة». (راجع ما كتبه أحمد داوود أوغلو في بحثه «تركيا والديناميات الأساسية للشرق الأوسط»).
الآن، تصبح لدى تركيا حاجة للمنطقة العربية. وبالتأكيد فإن للعرب أيضا حاجة لأنقرة. فمفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني لم تعُد تنفع بوسيط منحاز أو مُتردّد يُرحلها متى شاء، ويُشجّع عليها متى أراد، لذا فإن تركيا يُمكن أن تلعب فيها دورا جيدا، وأكثر ديناميكية.
كذلك سيُحقّق العرب مكاسب أخرى تتعلق بالمياه المتدفقة أصلا من مرتفعات جنوب شرق هضبة الأناضول داخل الأراضي التركية صوب العراق وسورية، في ظل تأهّب العالم لمواجهة أزمة مياه عالمية، قد تدفع بالعديد من الدول لخوض حروب من أجل المياه.
في جانب آخر قد يستفيد العرب بنقل مُنتجاتهم من الطاقة الغازيّة والبترولية إلى أوروبا عبر الأراضي التركية لتخرج من بحر إيجة واليونان وبلغاريا، أو البحر الأسود، مثلما يفعل الإيرانيون مع السويسريين في مجال الغاز.
فالدول الخليجية على سبيل المثال بصدد التفكير في إنشاء خط أنابيب بري يخرج من السعودية ويمر بدولة الإمارات ثم سلطنة عُمان لينتهي إلى بحر العرب، وذلك كبديل عن مضيق هرمز الذي لايزال يُشكّل لهم هاجسا عند وقوع أي اضطرابات أمنية.
كذلك قد تفتح تركيا الباب أمام الدول العربية للدخول إلى منطقة القوقاز. فهي تحدّها جورجيا وأرمينيا وأذربيجان من جهة الشرق، وهو ما يعني أن الدول العربية وخصوصا المملكة العربية السعودية من شأنها تمدّ خيطا مع آذربيجان عبر تركيا لتثبيت قدم وسيط في نزاع ناغورني كاراباغ.
أو سعي العديد من الدول العربية تكثير استثمارات الطاقة والتي بدأت بالبنك الإسلامي، والرغبة في الاستثمار في خط باكو - تبليسي - شيهان. أو الانتقال إلى الشمال الأعلى صوب روسيا.
في كل الأحوال تبقى العلاقات التركية العربية محل اهتمام لا محالة. وهي قبل كل شيء تصحيح لعقود من الزمن ذهبت بلا فائدة تُذكر للطرفين، رغم أنهما وفي معظم الأحيان كانوا حليفين لجهة واحدة وهي الولايات المتحدة، وآن أوان التصحيح.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2404 - الأحد 05 أبريل 2009م الموافق 09 ربيع الثاني 1430هـ