أتابع باهتمام بالغ التحليلات المالية والاقتصادية والسياسية التي تجري في العالم كله؛ وذلك لمعرفة الأسباب الحقيقية التي كانت وراء الكارثة المالية والاقتصادية التي يعيشها العالم الآن.
من أهم الأسباب التي يتكرر ذكرها بانتظام ملفت سبب غياب الشفافية والمعلومات الكافية التي تبيّن للمستثمرين وللمستدينين ولكل مؤسسات المجتمع المعنية مقدار المخاطر التي تكمن وراء أو تتلازم مع الصفقات الاستثمارية أو التبادلات المالية.
في الواقع توجد مخاطر معينة، تتراوح بين البالغة في الصّغر وبين الشّديدة في الكبر، في كل فعل بشري أو مجتمعي. وهذا ينطبق بامتياز على حقل السياسة. ومن هنا فانّه يخيّل لي أن أحد أسباب الفوضى في التعامل مع الصراع العربي - الصهيوني، وبالأخص في الساحة الفلسطينية، هو عدم المعرفة بمقدار المخاطر التي قد تكون وراء القرارات التي تتخذ أو القرارات التي يطالب المواطنون العاديون باتخاذها. دعنا نعطي بعضا من الأمثلة لتبيان ما نعني.
إن الفشل الذريع للمفاوضات العبثية بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وإدخال القضية الفلسطينية في تيه الاتفاقيات الجزئية الغامضة الهامشية، واستيلاء الصهاينة على 90 في المائة من أرض فلسطين، ورفضهم الحاسم لعودة اللاجئين إلى مساكنهم في كامل أرض فلسطين... إن كل ذلك يؤدي إلى طرح السؤال التالي:
إذا كان قادة السلطة الفلسطينية غير قادرين على تحقيق أي مطلب عادل لشعبهم ويشاهدون المذابح المتتالية لهذا الشعب، فلماذا لا يستقيل رئيس السلطة والوزراء ويقولون للعالم كله بأنهم أعطوا ما يكفي من فرص للصوص والمجرمين الصهاينة وللمستوطنين البرابرة فلم تقابل جهودهم وتنازلاتهم التي لا تنتهي إلاّ بالكذب والتلفيق من قبل أميركا وإلا بالتوحّش الحيواني الشيطاني من قبل السّكارى بأساطير التلمود؟
ما لذي يمنع قادة هذه السلطة الفلسطينية أن يتوقفوا عن المجاملات والإبتسامات والأمل المجنون ويقولون للعالم تفضل وتحمّل مسئولياتك؟
نريد مرة واحدة أن نعرف من هؤلاء القادة مقدار ونوع المخاطر الدولية والنضالية التي يمكن أن تنجم عن اتخاذ مثل هذا القرار المنطقي.
معرفة المخاطر بشفافية تامة هي وحدها التي يمكن أن تقنعنا بصواب بقاء هؤلاء الذين لايتعبون من التقبيل والمصافحة في السلطة، وإلا فإننا لانُلام إن قلنا بأن المسرح الفلسطيني الحالي أصبح مسرح الانتهازية والعيش الهنيء للبعض على حساب فقراء ومشردي ومكلومي فلسطين. الأمر نفسه ينطبق على قضية معبر رفح.
حتى هذه اللحظة لم نعرف بعد، بشفافية تامة، وبدون غموض الكلمات الرسمية العامة، المخاطر التي ستتحملها مصر الحبيبة العظيمة القائدة فيما لو قالت للعالم إنني لن أتحمل مسئولية تجويع مليون ونصف المليون من أهلي وإخوتي وأتركهم للمرض والعري وعار عيش البؤس، وبالتالي سأفتح المعبر وليأت الصهاينة لإغلاقه أو لتتحمّل أميركا وأوروبا والأمم المتحدة مسئولية الجريمة الفاسقة بحق الغزّاويين.
حتى الآن لا نعرف، بشفافية ومصارحة صادقة، ما الثمن الذي ستدفعه مصر، وليس من يعتقدون أنهم مصر، فيما لو استجابت لنداء الضمير الإنساني ومسئوليات الأخوة القومية التي عرفت بها مصر؟
والأمر ينطبق على قضية إيقاف التطبيع بكل ألوانه مع العدو الصهيوني وإغلاق السفارات الصهيونية والقول للعالم: لن يكون هناك اتصال ولا علاقات بعد الآن، إلا إذا اتفق نهائيا وبصورة شاملة ومضمونة على كل نقاط التسوية من دون استثناء ومن دون الدخول في متاهات المراحل، وبضمانات دولية حقيقية. ليخبرنا أعضاء القمة العربية ما المخاطر التي ستتحملها الدول، لا الذين يعتقدون بأنهم الدولة، جرّاء موقف كهذا؟
الواقع أن غياب معرفة المخاطر الحقيقية التي قد تكمن وراء اتخاذ أي قرار معقول ووطني وقومي من قبل كل الجهات الرسمية المعنية بالصّراع العربي - الصهيوني هو أحد أسباب الفوضى التي تخيّم على المشهد الفلسطيني.
هؤلاء الرسميون يجب أن يتوقفوا عن إلقاء المحاضرات والنصائح على الشعب العربي الغاضب الساخط، وليخبروه بحقائق الأخطار إن وجدت، وذلك قبل أن ينفجر الوضع في وجوههم، تماما كما انفجر الوضع المالي والاقتصادي في وجوه المدّعين بامتلاك الحكمة والمحتقرين لنقاء عفوية خلق الله
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 2312 - السبت 03 يناير 2009م الموافق 06 محرم 1430هـ