إن عدم المساواة في الوصول للخدمات التمويلية والافتقار للموارد والأصول يمثلان أهم أسباب الفجوة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع، اختلال فرص الرقي والتطور المتاحة أمام الجميع. فخدمات الإقراض لدى البنوك التقليدية لا تقدم بسهولة للبدء في نشاط مدر للدخل وعلى العكس فالقروض الشخصية تقدم وتيسر لتشجيع الاستهلاك، بينما تضع البنوك الكثير من القيود على المقترضين للبدء في نشاط إنتاجي، وللأسف فإن هذه البنوك التقليدية لديها قواعد ومعايير تفترض أن يضمن المقترض كل مخاطر نشاطه وبالتالي ضرورة امتلاكه للإمكانات قبل البدء، هذه القواعد تحد وتضعف من قدرة ورغبة الفئات محدودة ومتدنية الدخل على امتلاك مشروعات مدرة للدخل. وهذه النقطة تشكل الأساس لانطلاق ما يعرف بالتمويل متناهي الصغر، (micro-credit) وهو تمويل قروض صغيرة الحجم تقدم دون ضمانات مكبلة للفرد ودون شروط امتلاك خبرة مسبقة في المشروع الذي يرغب في تنفيذه والذي بدورة عادة ما يكون مشروع إنتاجي أو حرفي صغير الحجم يقوم الفرد فيه بالتوظيف الذاتي له ولأسرته.
برامج التمويل الصغير بدأت منذ نهاية الأربعينات في الولايات المتحدة وانتشرت في كل دول العالم، والخبرة المتراكمة لدى هذه الدول لم تمنعها من الاستفادة من أفكار مؤسسة جرامين، والتي أصبحت مؤسسة دولية تدير برامج تغطي الخمس قارات، ولم تعد ترتبط بموطنها الأصلي بنغلاديش.
تساءل بعض أصحاب الأقلام في البحرين وفور الإعلان عن تعاون وزارة التنمية الاجتماعية مع مؤسسة جرامين عن مدى صحة ما أعلن عن تواجد جرامين في الولايات المتحدة الأميركية، لذلك أشير في هذا الصدد إلى قيام مؤسسة جرامين بتأسيس وإدارة برامج لتنمية المؤسسات متناهية الصغر والصغيرة في الولايات المتحدة اذكر منها برنامجي «Project Enterprise» في مدينه نيويورك، وبرنامج «The Plan Fund» في دالاس بولاية تكساس. وطبعا فان بيئة الأعمال في بنغلاديش مهد جرامين تختلف كليا عنها في الولايات المتحدة، ولذلك تختلف طبيعة البرامج والأهداف، فمثلا يبدأ الإقراض في البرنامج الأول من 1500 دولار أميركي، بينما يبدأ في البرنامج الثاني من 3000 دولار وذلك تبعا لمستوى المعيشة، ويصل أقصى حجم للقرض إلى 12 ألف دولار (بينما يبدأ القرض في بنجلاديش بـ 25 دولارا وينتهي بـ 600 دولار فقط) ويشترط البرنامج قيام الأفراد المقترضين بوضع نسبة 5 في المئة من قيمة القرض في حصيلة ادخار يستطيعوا أن يشتروا بها أسهم في البرنامج فيما بعد.
وعن الخوف من الاختلاف الذي أشار إليه البعض في البيئة الاقتصادية بين الدول الفقيرة التي طبقت الفكرة وبين مملكة البحرين، اذكر جزءا من مناقشتي للبروفسور محمد يونس، وهو اقتصادي في المقام الأول، ويذكر أن نجاح فكرة جرامين في الدول التي يعتمد اقتصادها على الاقتصاد الزراعي مثل بنغلاديش، يعطي فرص نجاح اكبر لنا، إذ إن فرص إقامة أنشطة مدرة للدخل في هذه الدول محدودة للغاية (تقتصر على تربية الحيوانات وزراعة وتجارة المنتجات الزراعية)، بينما فرص إقامة مشروعات صغيرة ومتناهية في الصغر في دول ذات اقتصاد حر مثل الولايات المتحدة والبحرين تعتبر اكبر ما يمكن حيث ان المواطن أمامه فرص غير محدودة في أنشطة مدرة للدخل إنتاجية وتجارية وخدمية.
البنك له دور رائد أيضا في تمكين المرأة حيث تصل نسب القروض المقدمة إلى النساء إلى أكثر من 90 في المئة وأن نحو 33 في المئة من مقترضي البنك لم يكن لديهم عمل قبل حصولهم على القرض من البنك. وفرص العمل الجديدة تم توليدها في الغالب للأعضاء النساء. وقد ساعد البنك ثلث أعضائه من النساء ليصبحن مصدر دخل للأسرة. كما يساعد جرامين في تسهيل القروض للتجارة. ويساعد الناس في تنظيم أنفسهم لإزالة العوائق التي تعتري وصولهم إلى معيشة أفضل. من إزالة العوائق الاجتماعية (من خلال تقوية الجماعات والعلاقات الاجتماعية والتعليم للأطفال) العوائق الاقتصادية (من خلال تراكم المدخرات وخلق تدفق دخلي)، والعوائق الصحية (من خلال إدخال إجراءات صحية ملزمة للمقترضين ولأطفالهم).
يحاول بنك جرامين في نموذجه الأصلي أيضا ترسيخ قيم ومبادئ إنسانيه وتطوير ممارسات الأفراد، واذكر إحدى بنود قائمة القرارات الستة عشر التي يجب أن يوقع عليها مقترضي البنك والتي تحوي قيم اجتماعية وسلوكية يجب الالتزام بها لعالجة قضايا اجتماعية مثل «يتوجب علينا عدم أخذ مهر في أعراس أولادنا، كما يجب عدم إعطاء مهر في أعراس بناتنا. وعلينا الإبقاء على القرية خالية من لعنة (بلاء) المهر. ويجب علينا عدم ممارسة زواج القاصر، بينما يشير بند آخر الى «يجب علينا تعليم أطفالنا والتأكد من قدرتنا على تغطية تكاليف تعليمهم».
وماذا عن البحرين؟
نموذج بنك الأسرة المقترح ينتظر أن يعمل على تمكين الأسر البحرينية وتيسير الحصول على خدمات التمويل المتناهي في الصغر كمدخل للتوظيف الذاتي للأفراد، وأيضا توفير بيئة مناسبة للبدء في أنشطة مدرة للدخل للشباب والأسر كنتيجة لزيادة حجم التمويل وتنوع مصادره، بالإضافة إلى الخدمات التمويلية الأخرى التي تصب في تطوير مستوى معيشة الأفراد. والمبلغ المرصود «المليون دينار» يجب النظر إليه على انه النواة التي سيبدأ بها البنك كونه رأس المال التأسيسي، والمبلغ يعتبر كافيا إلى حد ما، إذ إن مبادرات الاقتراض المتناهي في الصغر تعتمد إقراض مبالغ صغيرة ولفترات قصيرة (عام تقريبا) مما يسمح بتضاعف رأس المال المرصود عند التأسيس وبشكل سريع.
وللمقارنة فإن مشروع الميكروستارت عندما بدأ تم رصد مبلغ مليون دولار أميركي فقط له، ومعدلات السداد في المشروع تتوافق مع معدلات السداد في مختلف دول العالم، والوزارة حاليا بصدد تطوير المشروع أيضا بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاستفادة من الخبرة الطويلة للعاملين به. وقد بدأت الوزارة في محاولة تطوير هذا المشروع منذ سبتمبر/ أيلول 2005 وتم الحصول على دعم مالي من احد البنوك الوطنية ولكن اختلاف وجهات النظر واعتماد آلية إدارة المشروع على جهات خارج الوزارة أدت إلى تأخر تنفيذ التطوير، والبنك المقترح يأتي ليتكامل مع الميكروستارت ولا ينافسه على الإطلاق، والهدف في النهاية هو إتاحة البرامج المكملة لبعضها وتعدد البدائل أمام المواطن.
إقرأ أيضا لـ "عاطف الشبراوي"العدد 1638 - الخميس 01 مارس 2007م الموافق 11 صفر 1428هـ