كثير من العوامل تجعل العاصمة المنامة مقصدا لعشرات الآلاف من الناس في كل ليلة من الليالي العشر الأولى من شهرمحرم في كل عام. المناميون، وذوو الأصول المنامية، وغير المنامية على اختلافهم، اعتبروا جميعهم المنامة مقصدهم الرئيسي في هذه الليالي وداوموا على الوجود فيها. ليس لتنوع الفعاليات التي تجري فيها كل ليلة، وغزارتها فقط، بل لاعتباره موسما حاشدا بالناس، كل فرد فيهم يأتي لسبب ما.
خليط عجيب غريب من البشر ذلك الذي تشهده المنامة في هذه الليالي، أعداد هائلة من البشر تقدر بعشرات الآلاف تبدأ نشاطاَ دؤوبا يتضاعف كل ليلة عن سابقتها لإحياء الشعائر الحسينية في تلك الأزقة الضيّقة. وعندما تكون في المنامة مساء في إحدى هذه الليالي، لا يمكن أن تعدم نشاطا تقوم به، حتى الساعات الأولى من الفجر.
خليط الناس الغريب ذاك لا يستثنى منه أحد، رجالا وشبابا وكهولا، نساء وأطفالا وفتيات، عربا وعجما وهنودا وغيرها من الأعراق، اجتمعت كلها في مكان واحد، في جموع بشرية هائلة لكل منها نشاطها. وعلى الرغم من الأجواء العبادية الروحانية هناك، لا يخلو الأمر من مشادة هنا، ومشادة هناك، يسببها اجتماع هذا الحشد الهائل من البشر.
الخطباء الحسينيون يتوزعون في المنامة في مناطق محددة يعرفها الرواد جيدا، فيجتمعون في الوقت المحدد في تلك المناطق شاخصين بأبصارهم رجالا ونساء، منتظرين أن يبدأ الخطيب. وبين زقاق وآخر، لا تعدم أن ترى زاوية صممها مأتم ما بشكل يجذب الزوار مجسدا ملمحا من واقعة الطف الحزينة. ناهيك عن موقع المرسم الحسيني ذو الأعمال الفنية البديعة. وبين فينة وأخرى، ينطلق موكب عزاء من هنا، وموكب عزاء آخر من هناك، يخترقون تلك الأزقة، معترضين المارة الذين يقفون على طرفي الموكب متفرجين، ومعزين أيضاَ. ولا تعدم مواكب العزاء هذه ملامح فنية أخرى، لكنها ملامح متحركة، بين خيول وجمال مزينة، وأعلام ونصب تاريخية. تجعل عيني المرء تمتلئ بالمشاهد التي تذكره بواقعة كربلاء كلما التفت يمينا أو يسارا.
يعرف الناس كل عام أن الحصول على موقف للسيارات قريبا من أحياء ومآتم المنامة مستحيل، لذلك يحرص كثيرون منهم على الذهاب باكرا علهم يتمكنون من حجز موقف، ولو بعيد، يقيهم عناء المشي الطويل فجرا بعد أن ينتهوا من حضور الفعاليات التي جاءوا لأجلها. مداخل المنامة تغلق في وقت مبكر ؛لتسمح للناس بسهولة المشي داخل تلك الأزقة، لكنك لا تعدم سيارة أو سيارتين تمشيان الهوينى بين كل تلك الجموع الغفيرة. أما حركة المرور فحدّث ولا حرج، فالخروج من «الحدود المنامية» صعب مثل الدخول إليها تماما، ببساطة ؛لأن تدفق الناس لا يتوقف، في أي وقت.
لم يعد مرأى وجوه غربية أو حتى شرق آسيوية غريبا في تلك الليالي بالمنامة، إذ يحرص كثير من السياح الأجانب على المجيء إلى هذه الأحياء ليلا للتفرج ومشاهدة الشعائر التي يقيمها أهل البحرين بهذه المناسبة. ولا يعدم الأمر وجود مترجم بجانب مجموعة سياحية يترجم لهم ما يتردد من عبارات على لسان المعزين، شارحا باختصار طبعا، لماذا جاءت كل هذه الجموع الغفيرة إلى المنامة في تلك الليلة.
أما العامل الذي شكل في السنوات الأخيرة جاذبا حقيقيا للوجود في العاصمة المنامة في الليالي الأولى من شهر محرم - على رغم استهجانه - فهو وجود أعداد كبيرة أيضا وسط هذه الحشود البشرية من الفتيات.
وهي ظاهرة استهجنت طويلا في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال حاضرة وبشكل أكثر وضوحا في تلك الأزقة الضيقة من أحياء المنامة. فعدد كبير من الفتيات يحرصن على الحضور ليليا في هذه المناسبة، مرتديات آخر صيحات الموضة من العباءات النسائية، وراسمات بأقلام الكحل عيونهنّ، ومتنقلات من موقع إلى موقع في المنامة التي تعج بالبشر، والفعاليات... والشباب.
أما بعض الشباب الذين يروقهم طبعا وجود تلك الوجوه الجميلة وسط كل ما يحصل حولهم، فلم يعدم بعضهم وسيلة أو حيلة للتقرب من هذه أو تلك، معتبرينها مناسبة جيدة للتصيّد، على الرغم من تناقض الوقت والزمان والمناسبة مع كل ما يحصل.
كل هذا، وأكثر، تجدونه في ليالي العاصمة المنامة في العشر الأولى من محرم، هذه الليالي التي تقلب ليلها نهارا، وتستيقظ حتى الفجر؛ لتحيي شعائر الحسين (ع).
العدد 1608 - الثلثاء 30 يناير 2007م الموافق 11 محرم 1428هـ