العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ

رحل الفكر الاستشراقي الغربي

برحيل آن ماري شيمل

المنامة - أحمد عباس أحمد 

تحديث: 12 مايو 2017

عندما التقيت آن ماري شيمل لأول مرة في مدينة بون، شعرت من اول وهلة بأني التقي مفكرة عظيمة أثرت التراث الثقافي الانساني، وقامت بتعريف الثقافة الاسلامية وبشرح الثقافة الاسلامية الشرقية بموضوعية ونزاهة. في لقائي الاخير معها في البحرين وقبل رحيلها، عبرت لي عن سعادتها بزيارتها البحرين قائلة انها لم تكن تتوقع يوما ان تقابل جمهورا شغوفا بالثقافة والعلم والمعرفة كالجمهور البحريني، وخصوصا انها سبق لها وان زارت معظم البلدان العربية والاسلامية، لكنها في الوقت نفسه، لم تحظ بحفاوة وكرم وضيافة وحب الناس لها كما احبها اهل البحرين. وأكدت انها قامت بجولة في ربوع البحرين تحدثت خلالها مع الانسان البحريني العادي البسيط ولمست طيبته وحسن خلقه وتلقائيته.

الواقع ان مواقفها المؤيدة للعرب والمسلمين عرّضتها للكثير من المساءلة وخلقت لها اعداء في الغرب المسيحي اثاروا ضجة اعلامية لا مثيل لها معادية للاسلام والعرب في المانيا، وخصوصا عندما حازت شيمل جائزة السلام الدولية التي يقدمها اتحاد الناشرين الالمان سنويا في معرض الكتاب الدولي الذي يقام سنويا في فرانكفورت. الحملة الاعلامية المناوئة للسلام لم تكن في الحقيقة تستهدف شيمل بقدر ما كانت تستهدف الوجود الاسلامي في الغرب الذي تحاول الجهات المعادية للسلام تشويه صورته، لذلك اصر الرئيس الالماني رومان هيرزوغ على تسليم الجائزة بنفسه لشيمل، واعتبرت خطوة الرئيس الالماني بادرة تؤكد رغبته في اقامة «حوار الحضارات» الذي كان يخطط لإقامته منذ مدة، بدلا من تأجيج النار لخلق جو تصارعي بين الإسلام والغرب.

واذا كنت ابادر في هذا السياق، إلى قراءة افكار هذه المستشرقة الجليلة التي قدمت بعلمها إلى الامة الاسلامية مجلدات في العلوم والآداب الاسلامية وساهمت في نشر الحضارة الاسلامية في الغرب، على رغم نظرة الشعوب الاوروبية الدونية إلى أبناء الجالية الاسلامية المقيمة على اراضيها، وأهدف من ذلك إلى وضع اطار عربي موحد لتقدير اعمال المستشرقة شيمل وتكريمها على اعلى مستوى، في كل محفل لتقليدها اعلى الاوسمة، ويا حبذا لو وجد وسام ثقافي بحريني مصنف لتكريم الرواد الاجانب مثل المستشرقة شيمل. التكريم يجب ان يكون شاملا عن طريق مشاركة المؤسسات العربية الكبرى والاتحادات والجمعيات العربية المؤثرة في الحياة الاجتماعية والمدنية العربية.

الشيء المؤسف جدا أن كتب واصدارات شيمل الفكرية لم تترجم إلى اللغة العربية كما يجب، بينما ترجمت إلى جميع اللغات الحية الاخرى، لذلك لم تكن للقارئ العربي اية وسيلة لقراءة كتبها، سوى مطالعة كتبها باللغات الاخرى.

لكن ما بداية مشوار شيمل مع الفكر الاسلامي؟ حصلت في العام 1956 - 1957 على منحة دراسية للدراسة في كلية اصول الدين في انقرة - تركيا وكتبت مقدمة عن تاريخ الاديان المقارن باللغة التركية العام 1955، شرحت ووصفت مختلف الديانات الشرقية، وأجرت مقارنة بينها. الا انها ركزت بحثها على الدين الاسلامي واسباب توسعه شرقا وغربا ولماذا اعتنقت شعوب الارض هذا الدين.

درست المتصوفين والطرق الصوفية العام 1955 وكتبت عن سيرة الصوفي ابن الخفيف الشيرازي بتعمق، حتى ان الكتاب احتوى على 300 صفحة من النصوص الفارسية، ومقدمة تركية تتألف من 100 صفحة. الدافع إلى المعرفة هو حبها للموضوع الذي تكتب فيه ولطالما تقول إنها لا تحب ان تبحث في موضوع لا تحبه. من ناحية اخرى، فإن حب شيمل للقطط جعلها تبحث عن القطط الشرقية وتتقصى اثرها وتعتقد ان القطط الشرقية ساحرة الجمال، الامر الذي دفعها إلى إصدار كتابها المعروف بـ «القطط الشرقية» العام 1983 والطبعة الثانية العام 1989.

اطلق عليها الاتراك اسم «جميلة» وهو مقارب للاسم الالماني «جميل»، لهذا اصدرت كتابها الشهير عن الجمال بعنوان «الله جميل يحب الجمال» العام 1996، في برن بسويسرا، الكتاب وصف كامل لحياة وشخصية جمال الدين الرومي وطريقته الصوفية، معتبرة ان الرومي تأمل جمال الخلق والخليقة وكون صورة ذاتية للجمال الالهي، من ذلك المنطلق درست الأشعار بجميع اللغات الإسلامية التي تتحدث عن الجمال والطبيعة وجمال الروح وصفائها، وكتبت عن تذوق الصوفيين لجمال الخليقة وتشوقهم إلى شخصية الباري عز وجل، وعاشت مع مؤسسي الطرق الصوفية في تركيا المعروفين بالدراويش، الذين يعبرون عن ايمانهم بالرقص والانفعال. كما ألقت عدة محاضرات عن جلال الدين الرومي أهمها محاضرة في العام 1975 بعنوان «يوم ربيعي في مدينة فونيا (تركيا) مع جلال الدين الرومي» مصحوبة بصور شمسية ساحرة وناطقة.

عندما تولت شيمل كرسي الدراسات الاسلامية لمنطقتي الهند وباكستان بجامعة هارفارد في اميركا لمدة طويلة، عاشت مع الهنود والباكستانيين في بلدانهم وقراهم وجامعاتهم كما عاشت من قبل في ايران، لكي تقدم إلينا بحوثا حية عن آثار الحضارة الاسلامية في الهند وباكستان مدونة في عشرات المحاضرات التي ألقتها عن هذا الموضوع. ومن اعمالها ترجمة اشعار سعدي وحافظ وعمر الخيام من الفارسية إلى الالمانية، كذلك اشعار غالب ومحمد اقبال من الاردية إلى الالمانية.

حصلت على الدكتوراه الاولى في سن 19 فقط من برلين. لكن لقاءها البروفيسور بعانس هاينريخ شيدر الذي علمها تاريخ الفكر والحضارة كان له الاثر البالغ في شغفها بدراسة الحضارات الحية في العالم. دراسة الشعر وبلاغة الشاعر الانجليزي جون دون من العصر الشكسبيري حببتها في دراسة بلاغة الشعراء العرب قبل الاسلام. في بداية حياتها درست الحضارة الاسلامية واصدرت رسالة الدكتوراه العام 1943 بعنوان: «الخليفة والقاضي في مصر في القرون الوسطى المتأخرة».

واستمرت في دراسة تطور الحياة السياسية في مصر حتى كتبت العام 1946 عن البنية الاجتماعية لطبقة العسكريين المماليك. ومن اعمالها القيام بترجمة اعمال شعراء كبار كالمتنبي ونقلها إلى الالمانية.

عدد المحاضرات المكتوبة التي القتها حول العالم فاقت الـ 1000 محاضرة، ولم تتعود ان تقرأ من مخطوط امامها لتحاضر، كما انها تغلق عينيها وتحاضر باللغات التي تجيدها وهي الالمانية والانجليزية والتركية والعربية والفارسية والاردية، المادة العلمية بتفاصيلها الكثيرة والتواريخ والاسماء تحفظها في ذاكرتها.

بلغت محاضرات شيمل ذروتها مع سلسلة محاضرات كيفوركيان مطلع الثمانينات، او سلسلة محاضرات جيفورد التي القتها أخيرا. اما في البحرين فقد امتعتنا بمحاضرات قيمة عن حوار الحضارات بنادي الخريجين، ومحاضرات عن الحضارة الاسلامية في الهند في بيت القرآن، وبهذا الصدد لابد ان نشكر القائمين على نادي الخريجين وبيت القرآن واكتشف الاسلام الذين بجهودهم الحميدة ساهموا في اثراء الفكر الانساني بشأن الحضارة الاسلامية بدعوة المستشرقة آن ماري شيمل لتحاضر في البحرين.

اخيرا اظن اننا بوصفنا عربا ومسلمين لم نعط المرأة ما تستحقه، حتى اننا لم نكرمها التكريم اللائق بها، كما اننا لم نوظف علمها وفكرها وشرحها المنصف للاسلام والتراث الاسلامي، للرد على مهاترات الغرب التي تنال من الاسلام والمسلمين، والصاق تهمة الارهاب بهم. وباعتباري أحد تلاميذها لن انسى كيف قدمتني إلى الجمهور الالماني والغربي، وشجعتني على إلقاء المحاضرات بجامعة ماينز الالمانية عن حوار الحضارات، ولا اقول بمناسبة رحيلها إلا رحم الله آن ماري شيمل والرحمة يستحقها كل ميت





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً