العدد 122 - الأحد 05 يناير 2003م الموافق 02 ذي القعدة 1423هـ

تعليم ثانوي للمستقبل

المنامة- علي محمد فخرو 

تحديث: 12 مايو 2017

يجب ألا ننسى قط أن نسبة كبيرة من المواطنين سيتركون مقاعد الدراسة النظامية بعد انتهاء هذه المرحلة. وهذا يعني أن تهيئتهم ليكونوا مواطنين واعين وفاعلين ومنتجين يجب أن تكون من أولويات بل وفي قلب، هذه المرحلة.

وإذا كنا نتحدث عن المستقبل فان ذلك سيعني التحدث عن التغير والتطور والاستشراف والعصرنة والمرونة. من دون ذلك سيكون هناك خروج تدريجي من وسط تيار العصر إلى هوامشه، ثم الى خارجه. ومن أجل الانتقال إلى المستقبل لابد من تفكيك الماضي ونقده لتجاوزه.

إن الفكر التربوي العربي ظل لقرون مديدة فكرا محافظا، بل وآسنا. وبقيت المؤسسة التربوية تجتر نفسها تنظيما ومحتوى. من أجل الخروج من هذا المأزق هناك حاجة إلى التجريب والمغامرة المبدعة المحسوبة الجسورة، فالتطوير لا يلائمه الخوف والتردد.

إن بناء عقل ووجدان وروح التلميذ الإنسان، بحريته ومشاركته وفرحه، هو منطلق العملية التعليمية ـ التعلمية. أما المعرفة العلمية والتكنولوجية ـ والممارسات الفنية والعملية فإنها وسائل يمكن تعميق تعلمها وممارستها والاستزادة منها في أية مرحلة من مراحل العمر وحسب متطلبات ظروف الحياة.

من أجل أخذ تلك الثوابت بعين الاعتبار أعرض ما أراه ضروريا لبناء المدرسة الثانوية العربية التي تتوجه نحو المستقبل وتتجاوز بعضا من إشكاليتها الحاليــــة.

أولا: تحديد وتوضيح أهداف المدرسة

جرت العادة أن تضع وزارات التربية والتعليم أهداف وغايات التعليم الثانوي. لكني أعتقد أن واجب كل مدرسة أن تضيف إلى العموميات ما هو خاص بها وذلك من وحي حاجات البيئة المحلية من جهة ومن وحي طموحات وأفكار الهيئة التعليمية والطلبة وأولياء الأمور من جهة أخرى، هناك أهداف تتعلق برفع مستوى الطلبة، أو بزيادة نسب النجاح، أو بوصول مخرجات المدرسة إلى مستوى أعلى من المتوسط الوطني، أو بالخدمات التطوعية المحلية، أو بتحسين أداء الهيئة الأكاديمية الخ... يمكن أن تركز المدرسة على بعض منها كأهداف خاصة بها. لكن المهم هو أن تكون الغايات والأهداف العامة والخاصة واضحة إلى أبعد الحدود في أذهان العاملين والطلبة.

ثانيا: المنهج الثقافي العام المشترك

إن التقسيم المبكر لخريجي الإعدادية ليتابعوا مسارات العلمي والأدبي والتجاري والصناعي التخصصية المعروفة فيه تعسف يضر ببعض الثوابت التي ذكرنا وخصوصا بناء الشخصية الإنسانية المتوازنة الفاعلة. ان بناء تلك الشخصية يحتاج إلى منهج مشترك يغطي الافكار وأساسيات المعرفة والخبرات والقيم المشتركة والضرورية لنا كوننا بشرا يعيشون في فترة تاريخية محددة.

وابتدأ لا يوجد مبرر واحد لاختلاف الطلبة في دراستهم لأساسيات اللغة القوميــة (اللغة العربية) ولغة أجنبية واحدة، وفي إلمامهم بأساسيات الرياضيات والعلوم الطبيعية والحياتية، وفي إلمامهم بالترابط بين التكنولوجيا والعلوم وتفاعلهما مع البيئة والمجتمع، وفي تعويدهم على تذوق الآداب والفنون، وفي إلمامهم بالتربية الصحية والاجتماعية والشخصية. أما التربية الشخصية فقد تركز على تنمية الفرد الشخصية من نمو عاطفي ناضج، وبناء للثقة في النفس، وتعامل وتواصل مع الآخرين بكفاءة، وأساليب تحليل وحل المسائل الحياتية، وفهم لمشكلات البلوغ النفسية والاجتماعية والجسدية، وفهم صحيح وناضج للدين، ومعرفة لأسس الوالدية.

اما التربية الاجتماعية فقد تركز على حقوق الإنسان، والمواطنة، وتدبير الشئون الاقتصادية الشخصية، والمحافظة على البيئة، وقضايا الاستهلاك والإسراف، والتسامح في العلاقات المجتمعية والحقوق والمسئوليات السياسية.

وأما التربية الصحية فقد تركز على العادات الصحية الإيجابية وتجنب العادات والممارسات الضارة بالصحة. وبالطبع فكل ما قلته هو تصور مبدئي يمكن تعديله واغنائه. لكن مثل هذا المنهج المشترك البالغ الغنى والتنوع يستدعي، لكي يكون جديا ومفيدا لكل طالب، أن لايقل عن نصف منهج المرحلة الثانوية. وسواء أكان الطالب ينوي في هذه المرحلة ومستقبلا التخصص في العلوم أو الآداب أو التخصصات المهنية الأخرى أو ينوى دخول سوق العمل بعد هذه المرحلة فإن هذا المنهج المشترك ضروري له مواطنا وانسانا واختصاصيا.

إنني مقتنع بأن روح التعليم الثانوي بكل أشكاله تقع في هذا المربع. إن غالبية الشكاوى التي تلهج بها مؤسسات التوظيف العامة والخاصة والجامعات، بل ويتحدث عنها الأهالي والمجتمع بعمومه، تتعلق بأساسيات اللغات والرياضيات والثقافة العامة والقدرات الشخصية اكثر من تعلقها بمحدودية أو نواقص التخصصات والمعلومات الفنية البحتة. ذلك أن الشخصية المتوازنة المثقفة التي يهدف هذا البرنامج المشترك إلى بنائها قادرة على التغلب على مثل هذه النواقص في فترة زمنية قصيرة. وهناك دراسات الآن تعتبر العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي كأحد الأساطير التي يجب تحديها. ولعلها تريد إعادة التوازن بين ما هو ضروري للإنسان كانسان ومواطن وبين ما هو ضروري للعمل والاقتصاد.

ثالثا: نظام الساعات المعتمدة بوصفه مدخلا للمرونة وعدالة الخيارات

لا أحتاج إلى شرح نظام المقررات والساعات المعتمدة فتفاصيله موجودة في مئات المؤلفات، وتطبيقاته ممارسة في الكثير من البلدان، بما فيها بلدي البحرين، لكنني سأبرز ما اعتبرها قضايا مفصلية في هذا النظام. هناك أولا الفروق في قدرات الطلبة وظروفهم الشخصية وطموحاتهم التي يحلها هذا النظام حلا جذريا عندما يسمح بوجود حد أدنى وحد أعلى للمقررات التي يستطيع الطالب أن يدرسها في كل فصل دراسيا. إن هذه المرونة تأخذ واقع الحياة في الحسبان من دون أن يكون ذلك على حساب كرامة الطالب وثقته في نفسه.

هناك ثانيا الفروق في أوزان المواد والمقررات. فالمقرر الذي هو عبارة عن دراسة لمدة ساعتين في الأسبوع يحصل على وزن يساوي ثلث وزن مقرر يدرس لمدة ست ساعات في الأسبوع. إن الجهد المطلوب لدراسة المقررين يختلف كثيرا ومع ذلك فإن نظام التعليم الثانوي الكلاسيكي، في كل الأرض العربية، وعبر سنين طويلة، قد ساوى بين المقررين عند احتساب علامات الطلبة في الامتحانات. ولايحتاج الأمر إلى فطنة فوق العادة ليرى كيف أخر ذلك بجدية دراسة الطلبة الذين فضلوا دائما وضع جهدهم الأكبر في دراسة المواد ذات الساعات القليلة وذلك على حساب المواد ذات الساعات الطويلة كاللغة العربية او الرياضيات على سبيل المثال، طالما أن وزني علامتي الامتحان في كلا المادتين متساويان.

وهناك ثالثا موضوع التقييم برمته. فالنظام القديم يعتمد على امتحانات نهائية واحدة في نهاية المرحلة الثانوية تحدد نتائجها مستقبل الطالب برمته. ونستطيع تصور المأساة لو أن الطالب كان مجتهدا ومثابرا وناجحا في كل اختبار طيلة العامين الأوليين، لكنه لأسباب عائلية أو نفسية أو اجتماعية لم يستطع التألق في سنته الثالثة، ليجد نفسه وقد حصل على مستوى متدن في امتحان نهائي واحد يقضي على كل طموحاته المستقبلية وينسف كل إنجازاته الماضية.

لنقارن ذلك الوضع المأسوي غير العادل بنظام الساعات المعتمدة الذي يحتسب للطالب كل علامة وكل تقييم له عبر السنين الثلاث كلها، وبالتالي لايترك للتأثيرات المؤقتة فرصة تدمير مستقبل الطالب.

رابعا: تكنولوجيا

المعلومات والاتصالات

لايماري أحد في الأهمية القصوى لهذا الموضوع، لكن هناك اختلافات على التفاصيل. والمهم ليس شراء أجهزة الكمبيوتر وإنما وجود برنامج متناغم وكفؤ. ولما كانت الأغراض والاستعمالات متعددة فإن الحاجة ملحة إلى وجود منسق للنشاطات الآتية:

أ- البرنامج الأكاديمي لتكنولوجيا المعلومات، وهو برنامج يجب أن تكون أساسياته جزءا من المنهج المشترك الذي تحدثنا عنه والذي يجب أن يدرسه كل طالب.

ب- برنامج استعمال كل أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتجويد مستوى التعليم والتعلم الذاتي. ولعل هذا البرنامج يأتي في مقدمة الأولويات لأنه يصب في كامل العملية التعلمية التعليمية ويفسح المجال لأول مرة لتفريد التعليم بصورة حقيقية وغير مكلفة.

ج - برنامج تعليم وتدريب الهيئة الأكاديمية والإدارية بحيث تكون قادرة على تنفيذ البرنامجين السابقين بكفاءة وخصوصا فيما يتعلق بالاستفادة من إمكانات الكمبيوتر والإنترنت لتعزيز منهج كل مادة ما يستدعي تدريب كل معلم. ولقد أثبتت تجارب الكثير من الدول أن أكبر إخفاق لبرنامج تكنولوجيا المعلومات جاء بسبب الإخفاق في تهيئة الهيئة الأكاديمية تهيئة صحيحة، وبمستوى عال وبتعلم مستمر.

د - برنامج استعمالات هذه التكنولوجيا في كل الشئون الإدارية المدرسية والنشاطات التنظيمية للعاملين فيها بهدف رفع الكفاءة الإدارية وتخفيض نفقاتها.

هـ - متابعة المستجدات المتلاحقة الكثيرة في هذا الحقل من أجل إبقاء النشاطات السابقة على اتصال دائم بالجديد وبالأكثر كفاءة.

وفي جميع الأحوال فإن موضوع تكنولوجيا المعلومات لايمكن حله على مستوى المدرسة وحدها، وإنما سيحتاج إلى روافد ودعم على المستوى الوطني والإقليمي والقومي خصوصا بالنسبة إلى توافر برامج )َُّنٌُّّفْم ( جيدة لمختلف مواد الدراسة.

خامسا: الهيئة الأكاديمية

إن نجاح أو فشل كل النقاط الأربع السابقة يعتمد على فاعلية الهيئة الأكاديمية. من دون حل جذري لهذا الموضوع سندور في حلقة مفرغة. وبالطبع فالمجال لن يسمح بدخول التفاصيل، ولذلك سأكتفي بما اعتبره من المتطلبات الأساسية:

أ - إني شخصيا من المؤمنين والداعين إلى تمهين مهنة التعليم في كل المستويات. والتمهين له متطلبات ليس اليوم مجال مناقشتها. لكنه يشمل ضرورة توافر خلفية أكاديمية تربوية عالية المستوى عند كل معلم، وذلك بالإضافة إلى توافر خلفية ممتازة في مادة التخصص. وهو يستلزم وجود معايير لدخول المهنة والخروج منها ، بما في ذلك اعتبار المعلم الجديد معلما متدربا لمدة سنتين للتأكد من كفاءته العلمية والتربوية والشخصية، تماما كما يحدث بالنسبة إلى الأطباء الجدد. وهو يستلزم وجود برنامج صارم لإعادة التأهيل الدوري وللتعلم المستمر وللبقاء في قلب معارف العصر المرتبطة بحقل الاختصاص.

ب - إن الحد الأدنى لمؤهلات المدرس الأول، الذي يقود مجموعة من مدرسي أية مادة ، هو شهادة الماجستير في الاختصاص. ولقد حاولت البحرين أن تفعّل ذلك منذ بضع سنين فوجدت حماسا كبيرا من المدرسين وتحسنا في القيادة الأكاديمية وفي تطوير المادة.

ج - هناك حاجة إلى كادر وظيفي مرن يسمح بتحسين رواتب المعلين المستمر، بحيث لايحتاج الواحد منهم إلى التفتيش عن وظائف إدارية وترك مهنته من اجل تحسين ظروفه المادية. وفي اعتقادي أن ترقي المعلم في سلم الكادر يجب أن يرتبط ببرامج أكاديمية وتدريبية في الجامعات والوزارة والمدرسة تصب جميعها في إغناء المستوى الأكاديمي للمدرسين لينعكس ذلك على رفع مستمر لمستوى العملية التعليمية للطلاب. ان من حق كل أستاذ أن يتطلع الى وصوله التدريجي، راتبا ومكانة، إلى المستوى الذي يصل اليه المهنيون الآخرون، اذا ما ترافق ذلك مع رفع مستواه المعرفي والمهني.

د - هناك حاجة إلى وجود برنامج تبادلي بين المدرسة الثانوية ومختلف كليات الجامعات يستطيع بموجبه مدرس المرحلة الثانوية قضاء فصل واحد في التدريس الجامعي وذلك من أجل تفاعله الأكاديمي مع أساتذة الجامعات ومراكزها البحثية وأجوائها. ويمكن اعتبار تلك الفترة عطلة دراسية ـ بحثية ترتبط بالتقدم في الكادر الوظيفي الذي سبق ذكره.

هـ - سيكون مفجعا لو أن المعلمين المهنيين، ممن وصفنا خلفياتهم المعرفية والمهنية الرفيعة، لم يعطوا دورا في وضع المناهج بحيث تؤخذ بعين الاعتبار قيمهم ووجهات نظرهم في المعرفة والتعليم والتعلم بعين الاعتبار.

سادسا: المدرسة وحدة تربوية

تندرج تحت هذا البند موضوعات كثيرة. لكن روح الموضوع يكمن في وجود مؤسسة تربوية تضع أولوياتها، لها موازنة تتعامل مع بنودها بمرونة واستقلالية معقولة ، تدار بديمقراطية تشاركيه تسمع فيها أصوات الإداريين والمعلمين والطلبة وأولياء الأمور والمجتمع المحلي، تكون لها خططها السنوية التي تنفذها، وتقيم من قبل جهات مستقلة كسلطات الاعتراف الأكاديمي التي أثبتت فاعليتها في رفع مستوى المدارس والتزامها بحمل وتنفيذ مسئولياتها.

وبمعني آخر مطلوب من الأجهزة الوزارية مساعدة المدرسة على القيام بمسئولياتها وليس ادارتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ثم محاسبتها على نتائج نشاطاتها وانعكاس ذلك على مستوى خريجيها. وهناك طرق كثيرة لتقييم نتائج نشاطات المدارس الأكاديمية وغيرها للتأكد من وصول تلك المدارس إلى مستوى معقول من الكفاءة في أداء مهماتها التربوية.

أيها الأخوة:

تلك ستة جوانب اعتبرها مفصلية في بناء مدرسة ثانوية للمستقبل ومتطلباته... وبالطبع هناك جوانب أخرى كثيرة تحتاج إلى الاهتمام بها كوجود برنامج تثقيف وتوجيه مهني للطلبة، أو بناء مرونة أكاديمية تأخذ بعين الاعتبار إعاقات بعض الطلبة من جهة وتراعي الموهوبين من جهة أخرى، أو ضرورة إدخال الخدمة المجتمعية جزءا في المنهج، أو وجود برنامج الطالب المتدرب في مؤسسات الإنتاج والخدمات العامة والخاصة للطلبة الملتحقين بالتخصصات الفنية المختلــفـــة. والقائمة بالطبع طويلة.

لكن جميع مثل هذه المقترحات الفرعية وغيرها ستبوء بالفشل إن لم تحسم الجوانب الستة التي ركزت عليها.

بقي أن أذكر أننا في البحرين باشرنا بتنفيذ كل الخطوات التي ذكرتها منذ أكثر من خمسة عشر سنة. وأعتقد أن الأخوة العاملين في حقل التربية في البحرين سيحسنون صنعا لو قاموا بتقييم تلك التجربة من أجل تحسينها وتعديلها من جهة ومن أجل إقناع الآخرين بجدواها إن وجدوها اكثر فائدة للعملية التعليميــــــــــة ـ التعلمية في المرحلة الثانوية.

وأخيرا ، هناك قول لسي.إس لويس مفاده أن المستقبل هو شيء يمكن الوصول اليه من قبل كل الناس، أيا كان الطريق الذي يسلكونه، بشرط التوجه اليه بسرعة ستين دقيقة في الساعة. قد تكون هذه المقولة صالحة للمجتمعات التي قطعت أشواطا كبيرة في مضمار النمو الحضاري والتقدم. أما نحن، في أرضنا العربية، فإننا سنحتاج إلى التوجه نحو المستقبل، وخصوصا في حقل التربية، بسرعة ثلاثمئة دقيقة في الساعة. وإلا، فإن العالم سيسبقنا وسنعيش على هامش حضارة العصر، وهو مصير كارثي يجب أن نرفضه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً