في جولةٍ بحريةٍ جديدةٍ... انطلق الطرّاد باتجاه فشت الجارم، إلى الشمال الغربي من جزيرة البحرين، لتستكشف «الوسط» ما جرى على هذه المنطقة من البحرين بعد مرور عام واحد على تحوّلها إلى قضية شغلت الرأي العام ومجلس النواب والشورى والمجالس البلدية... حتى تشكّلت لجنة خاصة للتحقيق في مآل هذه الجزء من أرض الوطن.
انطلق الطراد من مرفأ الصيادين الصغير غربي حالة بوماهر بالمحرق، في الثالثة ظهرا... وكان الوقت قائظا، والأرض تلتهب بالحرارة، ولما توسّط البحر أصبح النسيم عليلا، كلما ابتعدنا عن اليابسة.
في الطريق... مررنا بعدد قليل من سفن الصيد الخاصة بصيد الأسماك، فهي لا تخرج إلا مع المساء وليس في عز الظهيرة. وفي الطريق كانت هناك عدة علب وقناني بلاستيكية يتخذها الصيادون علامات على أماكن وجود أقفاص الصيد (القراقير). توقف القارب ليرينا كمية الصيد، انتشل قفصا واحدا فعثرنا على ثلاثة قباقب فقط... الوضع لا يشي بصيد وفير.
بعد خمسة وثلاثين دقيقة، شارفنا على النزول على الجزيرة الغربية من جزر فشت الجارم الثلاث، لا يوجد فيها غير الطيور. لو جئنا قبل شهرين لرأينا الأرض مفروشة ببيض الطيور المهاجرة.
في الجزيرة الوسطى كان الوضع مشابها، ولأن مستوى سطح الماء كان منخفضا، لم يغامر مرافقنا بالنزول، فدار بنا حول الجزيرة الصغيرة وهو يسوق الطرّاد ببطء... حتى اقتربنا من الجزيرة الكبرى.
النزول هذه المرة على أرض الجزيرة كان مختلفا... فمن الوهلة الأولى تشعر بأنها جزيرة أخرى غير التي زرتها قبل عام واحد فقط. من البداية تعثر على لوحٍ كهربائي محروق ربما كان يستخدم للإنارة. باب المولد الكهربائي الذي يقع على بعد عشرات الأمتار وسط الجزيرة تم اقتلاعه وجيء به إلى الطرف. بعد قليل ترى عددا من مكيفات الهواء محروقة وملقى بها جانبا.
تتقدم أكثر فإذا بالغرف التي كان يقيم بها الحارسان قد تم تدمير كل أثاثها، ونزعت أبوابها ونوافذها، وملئت جدرانها الخارجية بالعبارات المكتوبة بالفحم.
قفص الدجاج مهمل، ولا تجد غير بقايا دجاج وطيور نافقة. إلى جانبه كانت هناك لوحة معدنية كبيرة لتوليد الطاقة من الأشعة الشمسية، تم تدميرها بالكامل.
الجزيرة التي تنتشر فيها الأشجار والنخيل بصورة منسقة في السابق... نظرا إلى اعتمادها على نظام جيد للري، كفيل باستخراج الماء العذب من تحت الأرض، عبر طاحونة هوائية تعمل بقوة الرياح. بعد إهمال الجزيرة لأكثر من تسعة أشهر، وسحب الحارسين منها، تدهور هذا النظام، فماتت غالبية الأشجار، وجفت وتكسرت رؤوس النخيل.
الجزيرة خلال هذه الأشهر التسعة الأخيرة، تُركت مثل الحديقة الجميلة من دون ناطور، فتعرّضت للسرقة والتخريب المتعمّد، بل أن هناك مولّدا كهربائيا كبيرا تم تفكيكه وانتزاعه وسرقته من الجزيرة، فلم يبقَ غير قاعدته الإسمنتية الصلبة.
توصيلات شبكة الري بعضها ظاهر على الأرض وبعضها مدفون تحتها، حتى هذه الشبكة تم تدمير أجزاء كبيرة منها، فالمواسير والأنابيب تم تحطيمها عمدا، وجرت محاولات لنزع الأنابيب المدفونة، وكذلك الأسلاك الكهربائية من تحت الأرض.
في الأشهر السابقة، كان البيئيون الذين تحركوا للتحذير من بيع هذه الأرض لجهات مجهولة، هم أيضا أول من أطلق صيحة التحذير مما تتعرّض له الجزيرة ومنشآتها ومرافقها التي تعتبر ملكية عامة للدولة. وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي قاموا بزيارة للجزيرة مع عدد من الصحافيين للتنبيه إلى ما يحصل، ودعوا حينها الجهات المسئولة إلى تدارك الأمر، والعمل على حفظ هذه الممتلكات العامة، من دون أن يصغي لهم أحد. بل أن أحدهم قدّم شكوى رسمية في أحد مراكز الشرطة لعل وعسى أن تتخذ إجراءات لكن من دون جدوى.
من يزور الجزيرة يصدمه وضعها الحالي عما كانت عليه قبل عام. والصور خير من يتكلّم... نترك الصور تتكلّم من دون تعليق.
وزير البلديات: أنا المسئول عن الفشوت
بعد أن اهتمت الصحافة المحلية، وفي مقدمتها «الوسط»، بقضية فشت الجارم، التي نشرت على صدر صفحتها الأولى مانشيتا عن عرض «فشت الجارم» للبيع لجهات غير بحرينية، وذلك بتاريخ الأحد 13 مايو/ أيار 2007، اعتمادا على مصادر مطلعة سربت إليها الخبر. وظل الغموض مسيطرا على موقف الجهات الرسمية، وبعد يومين نفت وزارة الإعلام الخبر في بيان من سطرين. وبعد إثارة التساؤل عن الجهة التي تتبعها هذه الأراضي رسميا، اكتشف الرأي العام أنه ليس هناك تصور رسمي محدد للإجابة. واستمر ذلك الإرباك عدة أيام، حتى تقدم وزير البلديات والزراعة في مساء يوم الثلثاء، الخامس عشر من مايو، بالإقرار بأن وزارته مسئولة عن فشت الجارم، ولكن محرّري قسم المحليات في «الوسط» كانوا في صباح ذلك اليوم نفسه قد اتصلوا بالوزير فنفى أن يكون مسئولا عنه.
اليوم... وبعد مضي أكثر من عام على إقرار الوزير بمسئوليته عن الفشت، وبأنه صاحب الاختصاص في كل ما يتعلق بالفشوت والجزر، ألا يحق للصحافة أن تسأل الوزير عن هذا التقصير والإهمال الذي لحق بالجزيرة وما جرى فيها من تدمير للممتلكات العامة؟
حين تصاعدت أزمة البيع الصيف الماضي، هبّ البعض للمطالبة بإلحاقها بهذه المحافظة أو تلك، وتم تشكيل لجنة تحقيق برلمانية شملت الجزر والفشوت الأخرى، وتم تقديم مقترحات بالبرلمان لحماية الفشوت وضمان اعتبارها ملكية عامة.
انقاذ الجزيرة اليوم، أو بالأحرى إعادتها إلى ما كانت عليه، لا يحتاج إلى أكثر من وجود حارسين وكمية من الوقود لتشغيل المنشآت، بالإضافة إلى إصلاح ما تم تخريبه من منشآت ومرافق، وذلك حفاظا على هذه الأراضي التابعة للدولة في وسط البحر.
نزعة التخريب... وعدم الشعور بالمسئولية
الجهة الأخرى التي لابد من الإشارة إليها في المسئولية عما حصل، هي الزوار الذين يرتادون الجزيرة، وهم فئة مجهولة، يغريها الإهمال التام للجزيرة لأعمال التخريب والتدمير بعيدا عن الرقابة والمحاسبة. من هنا كان لافتا حجم التخريب الذي طال غالبية المرافق، ويتضح التعمد في ذلك، ليس فقط في تكسير النوافذ والأبواب وخزانات الملابس، بل تعداه إلى تحطيم مواسير المياه وشبكة الري ونزع أسلاك الكهرباء حتى المدفون منها. بل أنك تشاهد بعض الأجهزة الكهربائية محطمة، وبعض مكيفات الهواء محروقة وملقاة بعيدا عن الغرف. بل أن مولد الكهرباء وهو بآلاف الدنانير، تمت سرقته بعد نزعه من قاعدته الإسمنتية الصلبة، ونزع الباب الحديد الذي كان يقفل عليه.
عدم الشعور بأن هذه المرافق ملكية عامة تعود إلى الشعب، هو الذي يدفع إلى كثير من السلوكيات الخاطئة، سواء كانت في صورة تخريب للممتلكات العامة في الشارع، أو حرق إشارة ضوئية تنظم حركة المرور، أو في جزيرة نائية وسط البحر. فالجمهور مسئول أيضا عن الحفاظ على ثروته وثروة بلاده.
فشت الجارم... رحلة طويلة من البيع إلى محاولات الحماية... إلى الخراب
@ تفجّرت قضية فشت الجارم يوم الثالث عشر من مايو/ أيار 2007 مع نشر خبر عن محاولة لبيعه لجهات أجنبية، ونشرت مع الخبر صورة جوية للمنطقة تبين موقع الفشت على الخريطة الذي تبلغ مساحته 260 كيلومترا مربعا.
@ الرابع عشر من مايو: بدأ تفاعل المجلس النيابي مع الموضوع، إذ طالب عددٌ من النواب إعلان اسمي البائع والمشتري، وما إذا كان المبلغ سيدخل موازنة الدولة ام لا، مع إشارة بعضهم إلى مساءلة وزير المالية بهذا الخصوص. ونشرت مع الخبر صورة جوية للفشت.
@ الخامس عشر من مايو: وزارة الإعلام تصدر بيانا مقتضبا جدا تنفي فيه عملية البيع جملة وتفصيلا، مع نفي وجود أي مخطط لدى الحكومة بخصوص الجارم. كما أصدر جهاز المساحة والتسجيل العقاري بيانا مقتضبا آخر ينفي فيه الصفقة. ونشرت مع الخبر صور لرحلات شبابية سابقة للجزر.
@ السادس عشر من مايو: رفض مجلس النواب بغالبية أعضائه الاستماع لبيان الحكومة يتلوه وزير البلديات منصور بن رجب بسبب إصرار رئيس المجلس خليفة الظهراني على تلاوة البيان دون مناقشته. وطالبت كتل الأصالة والوفاق والمنبر الحكومة بمزيد من التوضيحات بشأن الفشت. وبدأت «الوسط» تنشر صورا حديثة جدا للجزر الصناعية الثلاث بالمنطقة، مع صورة على الصفحة الأخيرة لقطعة من الشعب المرجانية مأخوذة من قاع البحر بالقرب من الفشت ضمن تغطية مفصلة على الصفحات (2، 6، 11، 13 و24)، واعترف بعض النواب أن الحملة الصحافية أوقفت البيع.
@ السابع عشر من مايو: كشف رؤساء المجالس البلدية أن الفشت والجزر الثلاث لا ترتبط إداريا بأيٍٍّ من المحافظات الخمس، مشدّدين على ضرورة تحديد هوية الفشت المعلقة.
@ الحادي والعشرين من مايو: فشت الجارم يطرح للنقاش في جلسة مستعجلة بالبرلمان، وأخذ الموضوع البيئي يحتل واجهة التغطيات انطلاقا من فشت الجارم إلى فشت العظم شرق البلاد، بالإضافة إلى طرح موضوع تحويل خليج توبلي إلى منتجع سياحي.
@ الثالث والعشرين من مايو: النواب وبالإجماع يقرون لجنة مستعجلة للتحقيق في فشتي العظم والجارم، من أجل تقصي الحقائق والحفاظ على ملكيتهما العامة، مع الموافقة على اقتراح برغبة بتحويلهما إلى محميتين طبيعيتين. ووزير البلديات يؤكد أن «جزر البحرين مازالت ملكا عاما، وكل شيء ملك للدولة مادام لا يملكه أحد، والجزر موجودة والكل يراها».
@ الخامس والعشرين من مايو: رئيس الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية يزور الفشت برفقة النواب، وقد شدد الطرفان على ضرورة حماية البيئة والحياة البحرية والفشوت، مع تأكيد اعتبار الفشوت «محميات طبيعية وضرورة تنميتها وتطويرها لكي تكون بيئة صالحة للسياحة».
@ السابع والعشرين من مايو: مطالبات نيابية بعرض مستندات ملكية فشت الجارم وما حولها من أراض، «وخصوصا أن وزير البلديات لم يقدم وثائق ملكية الحكومة للجزر وإنما تراخيص لشركات التنقيب عن النفط هنا».
@ الثاني من يونيو: رئيس لجنة التحقيق البرلمانية تطلب من وزير العدل وثائق ملكية الفشتين، والوزير يصرّ لـ «الوسط» أن التسجيل العقاري يمتلك ثلاث وثائق رسمية لملكية القطع الثلاث.
@ الخامس عشر من يونيو: وزير العدل يرفض «المساس بحقوق الدولة الثابتة في فشت الجارم».
العدد 2166 - الأحد 10 أغسطس 2008م الموافق 07 شعبان 1429هـ