بخروج حزب العمل من الائتلاف الثنائي مع تكتل الليكود تكون حكومة ارييل شارون انتقلت من مرحلة الرأسين إلى مرحلة الرؤوس المتعددة. فالعمل هو ثاني أكبر أقلية برلمانية في الكنيست الإسرائيلية، والليكود هو أول الأقليات النيابية. وبعدهما تتفكك مقاعد الكنيست إلى مجموعات حزبية يسارية ويمينية، عنصرية ومتدينة، وغيرها من الهيئات التي لا قيمة اعتبارية لها إلا حين يختلف العمل مع الليكود. فخلاف الكبار يعطي فسحة للمناورات السياسية التي تقوم بها المجموعات الصغيرة. فأحيانا تحتل مواقع سيادية بسبب ضعفها لا قوتها ونظرا للحاجة إليها وليس بسبب وظيفتها المتميزة.
هذه هي حال «إسرائيل» منذ قرابة العقود الثلاثة فهي مسيّرة لا مخيّرة ولا تستطيع العيش والاستمرار من دون مظلة دولية وحماية أميركية ومساعدات تقدر بالمليارات من الدولارات سنويا. مع ذلك تعتبر المشاغب الرئيسي على كل القرارات والمبادرات التي اتخذت على أعلى المراجع الدولية. فهي دولة مفككة منذ تأسيسها وهي دائما في وضع قابل للانهيار. وحتى لا تسقط تلجأ باستمرار إلى إعادة تركيب نفسها داخليا مستفيدة من التحولات الدولية ومن اتجاهات الرياح المتضاربة. فالحكومات الإسرائيلية من يمينها إلى يسارها تتمتع دوليا بوضع خاص وهي تستفيد ماليا وعسكرياَ وبشريا وتجاريا من تلك «الخصوصية».
فتلك الفرادة جعلت من دولة مهزوزة قادرة في كل فترة على «هز» الدول العربية وابتزازها سياسيا وتهديدها عسكريا. فالخصوصية الإسرائيلية جعلت من تلك الدولة هيئة توكل إليها وظائف إقليمية أكبر من حجمها وأعلى من طاقتها. وهذا هو المعنى الخاص لدور «إسرائيل» الذي يعتمد على موقع جغرافي يلبي حاجات دولية وتحديدا حين تتضارب المصالح العربية مع الغرب. فإسرائيل حاجة دولية يريدها الغرب ضد العرب. ولهذا السبب يدرك شارون أن مكانته في واشنطن أكبر بكثير من أي دولة عربية حتى لو اختلف معها وتمرد عليها وشاغب على استراتيجيتها. فشارون وربعه يعرفون أن واشنطن بحاجة إليه كما هو بحاجة إليها.
تكتسب هذه المسألة معناها حين نقرأ بعض الرهانات العربية على تحولات داخلية في المجتمع الإسرائيلي واختلاف قادته أو تراجع الليكود وتقدم العمل.
كل هذه التحولات الداخلية لا معنى لها. فالمشروع الصهيوني له خصوصيته إلا أن تلك الخصوصية كانت منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن الواحد والعشرين حاجة أوروبية بداية ثم أميركية تاليا. وهذه الحاجة هي جزء من سلسلة وظائف استراتيجية دولية لا تتغير إلا إذا تغير القرار الدولي في خارج «إسرائيل» لا داخلها.
ليس المهم من يحكم «إسرائيل»؟ حزب العمل، الليكود، أحزاب صغيرة، تحالف العمل مع الليكود، أو العمل مع مجموعات يسارية، أو الليكود مع مجموعات يمينية. كل هذه الألوان مجرد تفاصيل صغيرة وتافهة في قياس المنطق التاريخي الكبير. فالمهم ليس من يحكم «إسرائيل» بل لمصلحة من حكام «إسرائيل» يحكمون؟
كلينتون اختلف مع نتانياهو إلى درجة أن الأخير هدّد الرئيس الأميركي بأنه يملك غالبية في الكونغرس أكثر من الحزب الديمقراطي. وكلينتون رحب بفوز إيهود باراك في الانتخابات الإسرائيلية التي أعادت حزب العمل إلى الحكم إلا أنه فشل في إقناعه في مفاوضات كامب ديفيد الثانية بتقديم تنازل يجعل الرئيس الفلسطيني في موقع قوي يشجعه على إتمام الصفقة.
ذهب باراك وجاء شارون. وغادر كلينتون تاركا البيت الأبيض للرئيس الجمهوري الفائز بصعوبة على منافسه الديمقراطي. ومنذ تلك اللحظة استقبل جورج بوش شارون سبع مرات في مبنى الرئاسة في واشنطن بينما رفض حتى الآن مجرد توجيه دعوة لياسر عرفات ليسمع منه ما لا يريد سماعه.
المشكلة إذا ليس في سؤال من يحكم «إسرائيل» بل من يحكم أميركا؟ المشروع الصهيوني في المنطقة بنوده ليست سرية. السر في المشروع الأميركي وماذا تريد واشنطن من العرب؟
شارون استغنى عن حكومة الرأسين وسيشكل حكومة متعددة الرؤوس. ولا شك في أن الثانية أشر من الأولى... إلا أن المشكلة ليست هنا. إنها في واشنطن
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 57 - الجمعة 01 نوفمبر 2002م الموافق 25 شعبان 1423هـ