اعداد وتقديم : حبيب حيدر
"لا سبيل سوى القبول الحقيقي بحق الآخرين المختلفين في الوجود، أيا كانت درجة اختلافهم، ودون أن يتسبب الاختلاف في ألم مصدره الأكبر هو الرؤى الشمولية المطلقة الكامنة في اللاوعي. إذ لا يمتلك أحد منا معيار الحكم والتفضيل، بل لعل هذا المعيار غير موجود بالأساس"
جاء ذلك في المحاضرة التي ألقاها الباحث والأكاديمي أيمن بكر "بعنوان الآخر صراع أم تفاعل: المتنبي شوقي العريض مثالا" في أمسية حضرها مجموعة من المثقفين والأدباء السعوديين والكويتيين بالإضافة لرواد مركز كانو الثقافي. وذلك ضمن الأسبوع الثقافي الذي أقامه ملتقى الوعد السعودي في البحرين بشراكة عربية مع ملتقى الثلثاء الكويتي، والملتقى الثقافي الأهلي البحريني، وقد شارك خلال هذه الأيام الثقافية كل من الأدباء إسماعيل فهد إسماعيل، وفهد الهندال، وسوزان خواتمي، وإستبرق أحمد، ومحمد النبهان، ونادي حافظ، كما شهد الملتقى حفل توقيع مجموعة من الإصدارات السعودية الحديثة للشاعر محمد المرزوق روايته "لا تشبه امرأة جارك"، فيما وقعت الشاعرة كوثر موسى ديوانها "دخلت بلادكم بأسمائي"، أما الشاعر حسين المنجور فوقع ديوانه "أنا الهارب مني" وقد توزعت الفعاليات بين أماسٍ للشعر والسرد والنقد امتدت من 23 - 27 يونيو/ حزيران بعنوان "من أجلِ بيئة حضارية نعيشها داخل النص". ولتشكيل رؤية نصية شاخصة للمنجز الإبداعي الذي يهفو لبلورته محلياً وعربياً، ويُعدُّ هذا الأسبوع الثقافي الخامس الذي يُنظمه ملتقى الوعد الثقافي السعودي بتحفيز شخصي من أعضائه وبتفاعل وتعاون عربي يؤكد إلحاح المبدع على استمراريته وحياته خارج الطوق، بل إصراره على المغايرة في مقاربة النص أيا كانتْ أيدلوجيته وهويته.
في بداية محاضرته توقف أيمن بكر مع مقولة " أن الشيطان يسكن في التفاصيل" ...وعلق أحسب ذلك صحيحا.. لكنه في هذه الحالة شيطان رائع ومفيد. فلعلنا لا نبالغ حين نقول إن التفاصيل، تحليلها وإعادة النظر للأمور عبرها، أصبحت من أهم وسائل المعرفة وغاياتها أيضا، إذ يبدو أن الوعي الإنساني قد استنفد إلى حد كبير إمكانات الرؤى الكلية، التي تفسر العالم عبر تصنيفات تجميعية شمولية لا تستطيع أن تتعرف على الدقائق التي تصنع فروقات قادرة على توسيع مساحات الرؤية، فروقات تقف في طريق الاطمئنان لمثل تلك التصنيفات والرؤى.
وأضاف بكر "صاغت البشرية أحكامها التعميمية في مختلف المجالات في فترة مبكرة، بثقة هي الوجه الآخر لفكر التعميم، وبعد أن استكانت لأحكامها الكلية طويلاً وجدت أن المشكلات لم تنته، والأسئلة لم تتناقص، لم يتم حلها تلقائيا بمجرد استدعاء استراتيجيات التفكير والتصنيف التجميعية الكلية، بل بدأت مشكلات وأسئلة أخرى في التراكم خارج حدود التصنيفات الذاهلة عن التفاصيل، بل إن تلك التصنيفات بدت فَزِعَةً من التفاصيل التي تهدد مملكتها المستقرة بصورة موهومة، هكذا تبدو جملة الشيطان الذي يسكن التفاصيل أقرب إلى وسيلة تشهير أفرزتها الرؤى الكلية العاجزة عن التعامل مع التعقد الإنساني الثري، الرؤى التي تخفي مساحات التميز الفردي تحت عباءات تصنيفية كلية سوداء تخفي أكثر مما تبدي، هكذا يبدو أن الشيطان الحقيقي يسكن في التعميم".
وتساءل بكر: هل يمكن أن نعيد النظر في تراثنا الأدبي عبر التفاصيل؟ أم أن مقولة العلوم التي "نضجت حتى احترقت" تسري تحت جلد الثقافة وتقف بين البحث الأدبي/ الثقافي وإمكان إعادة القراءة عبر التفاصيل التي يهدرها التعميم؟ هل يمكن أن نجد ما نضيفه للبحث حول امرؤ القيس وأبي نواس والمتنبي وأبي العلاء وشوقي وغيرهم من الشعراء الذين كثرت حولهم الدراسات؟ لعل السؤال الأخير يجب أن يطرح بصورة مختلفة تؤمن بأن هناك ما نضيفه بالتأكيد فيصبح: كيف يمكن أن نجد الزوايا والتفاصيل التي يمكن عبرها تقديم الجديد؟ التفاصيل تؤمن بوجود الإضافة بالضرورة، ويبدو أنها تهدد حجم الإنجاز السابق، إنجاز الرواد العظماء الذين مهدوا أرض البحث والتحليل، الأبحاث الجديدة التي تنطلق من التفاصيل وتعتمد الرؤى الجزئية تزاحم الرؤى المستقرة، لم نعد نرَ الدراسات الكلاسيكية الساعية إلى تقديم رؤى كلية حول النصوص بوصفها كلمة فصل كما أراد لها أصحابها، بل لعلنا لم نعد نثق في كثير مما قدمته من أحكام تغافلت عن تفاصيل جمة في النصوص بسبب الرغبة في تقديم صورة شاملة: كلمة فصل، وكذلك بسبب الإخلاص لحالة التجانس التي تدعيها الرؤى الكلية بما يهدر الشذرات النصية المناوئة لتلك الرؤى؛ إهدار التفاصيل التي تقف في سبيل استقرار التصورات الكلية عن منطلقات النص وأهدافه، تفاصيل نحسبها الآن عظيمة الأثر، بل لعلها أن تكون سبيلا حقيقيا لتجديد رؤانا وإضفاء الحيوية على وعينا بصورة عامة.
وأضاف بكر من هنا كان التركيز في البحث على فكرة الآخر واقفا عند رؤية أولى يتهمها البعض بالمثالية، وبعدم إمكان التحقق على أرض الواقع، على الرغم من أن التاريخ يثبت أن هناك بعض الأفكار والتصورات التي بدت مثالية عصية على التجسد دفعت البشرية، ولعبت دور الأفق الأرقى الذي تحرك نحوه الوعي الإنساني: ألم تكن فكرة المساواة الكاملة في المواطنة بين السود والبيض تبدو مثالية يوماً ما في الغرب، الذي يعاقب الآن كل من يقدم على فعل تظهر فيه العنصرية؟
وتابع بكر حين ناشد ألبرت أينشتين وبرتراند راسل سكان العالم سنة 1955 بأن ينحوا جانبا تراث الألم الذي خرجت به البشرية من الحربين العالميتين، ومن تراث الكراهية الذي تأسس على أفكار العنصرية والتفوق العرقي وتوارثته الأجيال بلا وعي تقريبا، وأن يتذكر الناس فقط أنهم "أعضاء في جنس من الأحياء استطاع أن يصنع تاريخا رائعا؛ جنس لا يرغب أحد منا في زواله" حين ناشدا العالم بما سبق كان هناك فوران صاخب لتراثي الألم والكراهية السابقين، كانت الكرة الأرضية خارجة للتو من حربين طاحنتين تقع في الأساس منهما أفكار التفوق العنصري والرغبة في السيطرة على العالم، هل يمكننا أن نلمح كذلك في أساس المأساة إيمانا مطلقا بصدق التصورات والتصنيفات الكلية الشمولية وقدرتها على تقديم الحل النهائي والوحيد؟ هل كان هناك إهدار لملايين التفاصيل التي تقف ضد تجانس الرؤى الشمولية الكلية؟ يناشد أينشتين وراسل العالم بوعي متفوق على لحظتهما التاريخية، وأحسب أن فلاسفة الوضعية وغيرهم من المتهكمين على النزعة الإنسانية قد ابتسموا في هذا الوقت بسخرية تتناسب مع "واقعيتهم" المحترمة.
واستدرك بكر أن العمل باتجاه تجاوز النعرات القومية والعرقية نحو واقع مجتمعي ودولي أكثر عدالة آخذ في النمو منذ ذلك الوقت تحديداً، أي بعد الثمن الباهظ الذي دفعته الإنسانية – والغرب تحديدا – في الحربين العالميتين. صحيح أن تراث الألم والمرارة لم يتم تجاوزه، بل إننا مازلنا نضيف إليه حتى الآن في المساحات الأكثر انغلاقا على بنياتها الشمولية من العالم، لكننا أصبحنا أكثر انتباها لهذا الألم وسعيا لمقاومته عبر أفكار تبدو مثالية كنداء أينشتين وراسل، لكنها تحمل البذرة الوحيدة القادرة على النمو في تربة المستقبل، إذ لا سبيل سوى القبول الحقيقي بحق الآخرين المختلفين في الوجود، أيا كانت درجة اختلافهم، ودون أن يتسبب الاختلاف في ألم مصدره الأكبر هو الرؤى الشمولية المطلقة الكامنة في اللاوعي. إذ لا يمتلك أحد منا معيار الحكم والتفضيل، بل لعل هذا المعيار غير موجود بالأساس.
واستشهد بكر بمقولة هيغل "الوعي بالذات بما هو هوية مخصوصة لا ينبني إلا ضمن تفاعل متين مع غيره، إنه لا يدرك نفسه إلا عبر الاعتراف به من لدن وعي آخر بالذات". المعنى نفسه يؤكده تودوروف الذي يقول "إن معرفة الآخرين ليست ببساطة طريقا ممكنا نحو معرفة الذات، بل إنها الطريق الوحيد". ما أريد الوقوف عنده الآن هو شذرات دلالية يبدو أنها تلعب دور الرابط. يؤكد هيغل فكرة التفاعل المتين، وأحسب أن هذا التفاعل يكون متينا حين يفترض ضمنيا الاعتراف المتبادل بحق الاختيار الوجودي، وباحترام الاختيارات بوصفها أساليب مختلفة لممارسة الحياة وجميعها يثري الوجود الإنساني. يمكن أن تتمثل متانة التفاعل أيضا في حضور الرغبة لدى الأطراف التي يختلف بعضها عن بعض في تجاوز أهدافهم الذاتية المباشرة نحو أفق تعاون عميق باتجاه تنمية الحياة الإنسانية ككل، وتخفيض نسبة الألم الناتج من التصنيفات الجامدة التي تخفي عنصرية مقيتة، مهما بدا مظهر هذه التصنيفات براقا ومسلحا بأدوات تبرير الذات.
وتابع بكر تودوروف أيضا يجعل من معرفة الآخرين طريقا وحيدا لمعرفة الذات، والمعرفة هنا - كما هي لدى هيغل – تتضمن الوعي بالاختلاف والإقرار به أيا كانت درجته. إن فكرة المرور إلى الذات عبر الآخر تضع شروطا غير معلنة وتحتاج إلى حساسية خاصة ليتم تحقيقها على أرض الواقع، من هذه الشروط أنه إذا كان المرور إلى معرفة الذات بكل ما ندعيه لها من تعقد ثري لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الآخر، فإن هذا يعني الاعتراف بحقه في الوجود وباختياراته الوجودية وأساليب فعله في العالم. ولعل الجمود الفكري والسلوكي الذي لا يتمكن من القبول بأنماط فكر أو ممارسة مغايرة له، بل لعله لا يتمكن من مجرد ملاحظتها، هو ما يسطح الوجود ويبتعد بالإنسان عن إدراك تعقده، وهنا يبدو أن القدرة على الرؤية والقبول، ومن ثم التفاعل، هي من شروط تمهيد هذا الطريق الوحيد لإدراك تفاصيل الذات وأعماقها، أي لمعرفتها.
وتوقف بكر عند العلاقة بين الشرق (العربي/ الإسلامي) والغرب (الأوروأميركي/ العلماني) بوصفها من أشهر ثنائيات الأنا/ الآخر في القرن الأخير. من الصعب أن نختزل إشكاليات العلاقة بين الطرفين بصورة أحادية، فالغرب والشرق، بداية، هما كلمتان لا تعبران عن كتل معرفية أو عقائدية أو سياسية أو اجتماعية متجانسة، بل الأولى أن نتحرك بعيدا عن مثل هذه الكلمات أو التعبيرات التي تمحو تلقائيا الفروق الدقيقة والعميقة بين ثقافات الشرق العربي. الأمر نفسه ينطبق على الغرب. يبدو لي إذن أن هناك مشكلة يمكن الانطلاق منها وهي مسألة التنميط المتبادل الذي يسيطر على أفق العلاقة بين الجانبين.
وأكد بكر في محاضرته أنه كثيرا ما نلجأ للنمط الثابت stereotype في الإجابة على أسئلة تتصل بأمور نجهلها، أو لا نملك خبرة مباشرة معها، غير أن هذا الأمر سيعطل بصورة مؤثرة أية محاولات تقارب في الفهم بين كيانات حضارية كالشرق والغرب (مع التحفظ المستمر على التعميم). يرى إدوارد سعيد أن الارتكان إلى النمط الثابت غير القائم على خبرة مباشرة هو الفرق الرئيسي بين الموقف الأميركي والموقف الأوروبي في رؤية كل طرف للشرق العربي الإسلامي. الموقف الأميركي هو موقف يطلق عليه سعيد "الموقف النصي" أي الموقف الذي يبني تصوراته وآراءه على المعرفة النصية النظرية، التي تمثل عدسة غير مستوية بينه وبين العالم. أما الموقف الأوروبي فهو موقف تم تكوينه على أساس خبرة عملية قريبة من الشرق تسببت فيها الفترة الاستعمارية. رغم أن الموقفين لا يبتعدان كثيرا عن الأنماط الثابتة التي قام خطاب الاستشراق بتقديمها للوعي الغربي بداية من القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي. الأنماط الثابتة إذن قائمة هناك في العمق. الأمر نفسه ينطبق على الشرق الذي صاغت أنماطه الثابتة مجموعة مختلفة من العوامل منها النصوص النظرية، والإعلام الغربي المنتشر بقوة في البلاد العربية بما يضمه من أعمال فنية (السينما الأميركية تحديدا)، وكذلك ذكريات التاريخ المريرة من فترة الاستعمار قريبة العهد بكثير من أقطار الشرق العربي. وأيا كانت العوامل المكونة للأنماط الثابتة عن الغرب (وهي تزيد كثيرا عما تم ذكره هنا) فإنها قد خلقت حالة مشهورة من الازدواج في رؤيتنا للغرب (نحبه ونكرهه – نتمناه ونخشاه).
وخلص بكر إلى أن كل ما سبق هو جانب رئيسي من الجدل الذي تأسس عليه البحث حول صورة الآخر لدى بعض شعراء العربية الكبار، ثم توقف مع فكرة الآخر عند كل من المتنبي وشوقي والعريض، مشيراً إلى قصة هذا البحث وكيف تشكلت أفكاره.