في شهادته الإبداعية
رسول درويش: تقنيات لذة النص هي ضالتي
السهلة – وجود للثقافة والإبداع
ضمن موسم "شهادات إبداعية في التجارب البحرينية" التي تنظمها وجود للثقافة والإبداع بالتعاون مع دار فراديس للنشر والتوزيع تحدث الروائي رسول درويش مساء اليوم الإثنين (11 مايو / أيار 2015) عن تجربته في الكتابة ومدى تعلقه بلذة النص الذي راح يترجم رؤيته حول هذه اللذة من عدة زوايا "لذة النص هي الضالة التي يبحث عنها الكاتب حين الانشغال في عملية السرد بشتى أنواعها، وهي ذات الحالة التي يبحث عنها القارئ ليروي ظمأه ويجدَ من يتحدثُ بصوته ويعبر عن أفكاره باقتدار، ولذلك يرى الكاتب الفرنسي الشهير رولان بارت أن إدراك معنى النص اللذيذ قائم بعينه على إدراك مفاهيم رئيسيةٍ أخرى وهي: مفهوم النص، مفهوم الكتابة، مفهوم القراءة.
إنّ النص ومنه الرواية مثلاً يشبه راقصة فوق المسرح، يستعجل المشاهد (القارئ) تعريتها ولكن وفق إيقاع وترتيب مناطقي منطقي. فإذا تباعد القارئ مع النص وشعر معه بالبرود فيصفه بالممل، وإذا أصبح النص في ذلك السياق يلبي الحاجات التي كان يريدها القارئ وتتوافق مع ثقافته وتطلعاته المسبقة. حينها فقط ينعتُ النصَّ باللذيذ. إنه وبلا شكٍ تعريفٌ سطحي مبسط حيث لا يستطيع أي قارئ أن يتصور النصّ كاملاً. فالنص يشبه أغنية يختلف فيها الذائقة، وهو في الحقيقة لا يمثل الهدف المنشود الذي يتوق إليه الناقدُ أو القارئ البالغ وغيرهما.
إن عين الناقد وذلك القارئ البالغ يرون جمال النص في اختلافه مع القارئ بشبقية طويلة الأمد، يرون لذته في قيمته المتنقلة إلى قيمة الدال الفاخرة، إنهم لا يسعون وراء اللذة التوافقية بل يبحثون عن متعة الاختلاف! وهنا نصل إلى أرقى درجات اللذة في النص والمعروفة بمتعة النص؛ إن نص اللذة هو الذي يهب الغبطة لأنه ينحدر من الثقافة والرضا التوافقي ويكون فيه ترف اللغة جزءاً منه، أما النص الممتع فهو الذي يمكنك من قراءة جمله بالمقلوب، وهو الذي يجعل من الضياع حالة وينسف الأسس التاريخية والنفسية والثقافية للقارئ؛ ولذلك نقول إن اللذة قابلة للوصف ولكن المتعة غير قابلة.
إننا في هذا السياق، نحاول أن نسلط الضوء على مقومات النص اللذيذ بتدرجاته المختلفة، تلك اللذة التي دفعتني للبقاء طويلاً مع الكتاب، تلك اللذة التي دفعت الوليد بن المغيرة ليقول عن النص القرآني: ما هذا قول بشر! ثم نقارنه بأمهات الرواية العربية وبعض المترجمات وصولاً للأعمال المعاصرة ومنها على سبيل المثال رواية فئران أمي حصة للروائي الكويتي الجميل سعود السنعوسي.
ثم راح يبيّن مواقع التركيز على لذة النص في الكتابات العربية الكلاسيكية "لا شك أن القارئ العربي مرّ بحقب كثيرة ارتفع فيها نسق وإيقاعُ الرواية العربية تارة وترنح أو سقط تارة أخرى، ولكنّ الكلّ يدرك أن البقاء للأصلح، فقد يبرز كاتبٌ في حقبة ما نتيجة لمهارات التسويق وغيرها من الأمور اللاأدبية، ولكن تكون النهاية الحتمية وعلى المدى البعيد هي البقاء للعمل الأدبي الأقوى؛ والذي من خلاله يعتبر مرجعاً يستشهد به بقية الكتاب في العصور اللاحقة.
ولأخذ مثالٍ على لذّة النص، لابد أن نتذكر عمالقة الأدب العربي وصولاً للمعاصرين منهم، ونذكر منهم توفيق الحكيم، يوسف السباعي، إحسان عبدالقدوس، ولكننا سنقطف مثالاً لنجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل للآداب العام 1988 ونبحث في عجالة عن لذة النص لديه والتي كانت أحد أسباب وصوله للعالمية.
لقد عالج محفوظ وانتقد لحد الاختلاف في أعماله قضايا جوهرية متنوعة، وتحدث في "أولاد حارتنا" عن الإرث الديني والتاريخي القائم في المجتمعات العربية دون أن يذكرها صراحة، بل كانت الرمزية الأدبية حاضرة، أثار من خلالها القارئ للنص، وأبقاه في المنطقة المحايدة بين التلميح والتصريح، وهو أسلوب صعب المنال ولكنه فعّال يرفع من خلاله الجانب المعرفي والنقدي للقارئ، واحتاج النص بناء على ذلك حقلاً معجمياً مسيطراً، استطاع محفوظ من خلاله استخدام الصور البلاغية العميقة للتغلغل في قلب القارئ قبل عقله.
ويجدر بنا العودة إلى أهم مميزات العمل وهي محاكاة الإرث التاريخي من خلال الفانتازيا الأدبية. استخدم محفوظ الرمزية، فخلق شخصياتٍ وهميةً أسماها الجبلاوي وأدهم وإدريس وجبل ورفاعة وقاسم للدلالة إلى الخالق عزّ وجل، وإلى إبليس وآدم وموسى وعيسى ومحمد (ص)، ولذلك وقع القارئ بين موافق للنص ورافضٍ له بشدة؛ ذلك الرفض الذي دفع الكاتب نفسه لإعلان البراءة من (أولاد حارتنا) ودفع أحدهم لطعنه بسكين في ظهره. وهنا تجلت متعة النص من هذا الاختلاف الواقع بين تصوير المقدسات الدينية برمزيتها وبين براعة النص في التصوير، ولكن لم يكن النص لذيذاً لأولئك الذين لا يتذوقون المعنى اللغوي بل لا يكترثون إلا لجانب البناء الدرامي والمعنى. وهنا تجدر بنا الإشارة إلى القارئ البسيط الذي يميل إلى نص اللذة، وهو يتناقض مع القارئ المبدع وهو الذي يكون صفحة بياض قبل القراءة؛ أي أن يتخلى ذلك القارئ المبدع عن المعايير المسبقة والمتراكمة حين التعاطي مع النص الأدبي تذوقاً أو نقداً. وهنا نستدرك أنواع القراءة أيضاً.
ثمّة قراءتين للعمل الأدبي: قراءة مباشرة لمفاصل القصة تهتم بامتداد النص تعتمد التسارع التدريجي للأحداث والتهامها وهي تبعد الملل. وقراءة تهتم بمكونات القصة لغوياً، كالنقاط والفواصل والنحو وضجيج اللغة وعموديتها. وهي قراءة تراعي البطء والدقة والجزّ بعناية. تلك القراءتان يجب التمييز بينهما وعدم اطلاق الحكم على النص أو المتن بناءً على تكوينك الذاتي وميولك الشخصي.
كما تطرق للأعمال المترجمة قبل الإشارة للأعمال المعاصرة حيث بيّن "لابد من الإشارة إلى ما ذهبت إليه الشاعرة والروائية الشهيرة أحلام مستغانمي والتي بدأ نجمها يسطع مع ثلاثيتها الذائعة الصيت (ذكرى الحواس، ذاكرة الجسد، عابر سرير) ثم كتبت "الأسود يليق بكِ" حتى أنجزت مؤخراً ديوانها الشعري (عليك اللهفة)، وكان أحد أسباب الانتشار ذلك هو موهبتها الفطرية كشاعرة على القدرة الانتقائية للمترادفات والتمكن من اللعب على مهارة التقديم والتأخير حين صياغة الفكرة الغياب، وكان أسلوبها متمرداً لما درجت عليه مدرسة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي اعتمد على اختزال الكلمات والتجرد من الخيال وصولا بأسرع الطرق وأقصرها للفكرة وبناء الحبكة الدرامية كمكون رئيسي للرواية كما في خالدته (وداعاً للسلاح).
إن المؤلف هو ناسخ أولي وأن الأصل هو الغَيبة ولذلك تكون الترجمة هي صورة أولية لذلك الغياب، فالترجمة هي محاولة لإعادة الماضي في ذاكرة النص ويكون النص الجديد (الترجمة) ملتهما وليس محاكياً للنص الأصل، ومن هنا نقول إن لذة النص المُترجَم هي أن تضع من ذاتك فيه أكثر من الترجمة، ترجمة قارئ لا مترجم، فالترجمة قراءة في نص ونسخ جديد له، وعليه يمكن أن نرى بعد ذلك كيف يمكن لفن الترجمة أن يرفع العملَ الأدبيَ عالياً بينما تكون على النقيض ترجمة أخرى سبباً مقنعاً وحتمياً لفشل عمل كاد أن يرى النور ويصبحَ ناجحاً.