المدينة القديمة في العاصمة الليبية طرابلس تقاوم تبعات الحرب
الوسط – المحرر الدولي
يحني عبد الوهاب ظهره وهو يجلس على كرسي خشبي عتيق، مثبتا نظره على مطرقة يدق بها قطعة من النحاس في المدينة القديمة للعاصمة الليبية، التي تحاول تخطي تبعات الحرب مع تراجع المبيعات وانحسار الحماية الرسمية لمعالمها التاريخية ، وذلك وفق ما نقلت صحيفة الشرق الأوسط يوم الأربعاء (15 أبريل/ نيسان 2015).
يواصل عبد الوهاب السعودي عمله لساعتين، ويرفع قاعدة هلال برونزية يدقق في تفاصيلها للحظات ويضعها جانبا، ثم يأخذ قطعة جديدة من النحاس، يبدأ معها ساعتين جديدتين من العمل.
ويقول عبد الوهاب لوكالة الصحافة الفرنسية: «ليس هناك من مبيعات حاليا. نحن نصنع ونخزن فقط». وعلى مقربة من عبد الوهاب جلس مختار رمضان أمام محل صديق له ينتظر الزبائن، وقال: «نعاني من مشكلات كثيرة، فالمادة الخام مفقودة بعدما أصبحت طرق وصولها إلينا صعبة، والحركة من ناحية المبيعات تراجعت بعدما انعدمت السياحة، واليد العاملة الأجنبية وبينها المصرية غادرت». وأضاف: «لا أبيع سوى 15 في المائة مما كنت أبيعه قبل 2011. لكن لا يمكن أن أغلق المحل الذي ورثته عن أجدادي في مهنة تمارسها عائلتي منذ 150 عاما. نحن باقون هنا لحماية هذه الصناعة وراضون بنصيبنا».
وشهدت طرابلس الصيف الماضي معارك عنيفة بين جماعات مسلحة انتهت بسيطرة قوات «فجر ليبيا» التي تضم خليطا متحالفا من هذه الجماعات بينها مجموعات إسلامية على العاصمة في أغسطس (آب).
وانقسمت ليبيا مع انتهاء المعارك بين سلطتين، حكومة يعترف بها المجتمع الدولي وتتخذ من شرق البلاد مقرا بها، وحكومة مناوئة لها تبسط سيطرتها السياسية على العاصمة بمساندة «فجر ليبيا».
وترخي الحرب المستمرة بين القوات الموالية للسلطتين بظلالها على اقتصاد البلاد، وتطال تبعاتها المدينة القديمة في شمال طرابلس التي تزخر بالأسواق وعددها 22 سوقا، بينها سوق النحاس وسوق الحرير وسوق الكتب وسوق الصاغة.
وتمتد المدينة على مساحة نحو 48 هكتارا، وقد تأسست في القرن السادس قبل الميلاد على أيدي الفينيقيين.
ويقول مستشار جهاز إدارة المدن التاريخية حسام باش إمام: «المدينة القديمة قلب الحياة في ليبيا، والليبيون مرتبطون عاطفيا بها بشكل كبير». ويضيف: «لقد تعرضت هذه المدينة على مر الزمان لهجمات ومرت بصعاب كثيرة، لكنها لم تندثر، وبقيت في مكانها».
وإلى جانب أسواقها، تضم المدينة القديمة كنزا من المواقع التاريخية والأثرية، وبينها مسجد الناقة الذي يصنفه مؤرخون على أنه أحد أقدم مساجد شمال أفريقيا، إذ بني في القرن العاشر ميلادي، وكنيسة يسوع الملك التي تعود لعام 1829.
وعند بداية المدينة من جهة البحر، يقع قوس ماركوس أوريليوس الروماني على مقربة من أول منزل سكنته بعثة دبلوماسية فرنسية في ليبيا منذ بدء العلاقات بين البلدين في 1630، بينما يتوسط برج الساعة الذي بدأ بناؤه على أيدي العثمانيين عام 1866 ساحة تبعد أمتارا قليلة.
وتحيط بالمدينة من جهتها الشمالية الشرقية قلعة طرابلس المسماة بالسراي الحمراء، وتحوي متحفا أغلق بسبب الأوضاع الأمنية، وتطل على ساحة الشهداء التي كانت تعرف في عهد النظام السابق باسم «الساحة الخضراء».
ويرى باش إمام، وهو باحث في قضايا التراث العمراني، أن أكبر مشكلات هذه المدينة لا تتمثل بتراجع المبيعات فيها بفعل الوضع الأمني، بل «بعدم قدرة الدولة على التحكم بالفوضى فيها». ويوضح: «هناك تشويهات تطال مبانيها التاريخية، وبينها تغيير ألوان الطلاء من الأبيض إلى ألوان أخرى، وتغيير أشكالها (...) وحتى هدم بعض الأضرحة التي تعود إلى مئات السنين على أيدي متشددين». وتابع أن «الدولة لا سيطرة حقيقية لها حاليا، وهذه هي مشكلتنا الرئيسية».
وتشتهر المدينة القديمة خصوصا بزنقاتها المتفرعة من شوارعها وبينها «الزنقة الضيقة» التي تشمل ممرا صغيرا بين مجموعتين من المنازل تربط بينهما قنطرتان صغيرتان، و«زنقة بن محمود» التي تمتد بطول نحو 10 أمتار وهي عبارة عن مدخل يؤدي إلى منزلين طليت جدرانهما بالأزرق والأبيض.
وفي المدينة القديمة أيضا دار بيشي، وهو كنيس يهودي عبارة عن معبد ضخم مغلق منذ أن غادر آخر اليهود طرابلس عام 1967، ولا تزال نجمة داود تعلو جانبه الأيمن من الخارج قرب كلمات نقشت باللغة العبرية.
ويقع هذا الكنيس في ما كان يعرف بالحي اليهودي، وقد أغلقت مداخله، وسدت نوافذه، ما عدا نافذة واحدة تطل على ما يحتويه المعبد حاليا: أعمدة، وقطع من الخشب، وملابس بالية، وقناني بلاستيكية فارغة.
وفي سوق الحرير، يحرك جمال مصطفى محمود قطعة خشبية صغيرة علق فيها خيط أبيض طويل فوق مجموعة من الخيوط الحريرية، وهو يجلس خلف آلة خشبية ضخمة يصنع من خلالها فساتين حفلات الزفاف ومناسبات أخرى.
ويقول محمود، 60 عاما: «نحن مرتبطون روحيا بهذه الصناعة. أبي عاش هنا، وجدّي كان هنا، وأسرتي أيضا، بغض النظر عن الماديات وما تعنيه المادة».
ويضيف متجنبا الحديث عن الأوضاع الاقتصادية المتغيرة: «المدينة القديمة هي الأكسيجين الذي نتنفسه، هي التاريخ بحد ذاته. خرّجت مشايخ وعلماء وأطباء، ومر عليها كثير، وستتغلب على الصعاب بطيبة ناسها وأهلها».