تقنية بيئية: الضــوء الأخـضــــر .. التصميم العلمي للمباني المستدامة ذات الاستهلاك المنخفض للطاقة في طريقه إلى الانتشار
الوسط – محرر المنوعات
المتن
قبل أن تتبيّن يِتُونْدِي عبدول وجهة مسارها المهني، درَست علم السرطان في مختبرات برلين، ومدينة رافينا الإيطالية. وفي الوقت الذي انتابتها فيه مشاعر مزدوجة حيال مستقبل محصور في ردهات المختبرات، وجدت مسارًا مهنيًّا جديدًا أثناء دراستها للحصول على درجة الماجستير في التكنولوجيا البيئية في جامعة إمبريال كوليدج في لندن، وذلك وفق ما نقلت موقع nature الطبعة العربية .
ابتكرت يِتُونْدِي مجموعة من المعايير، ومؤشر نقاط؛ من أجل تقييم استدامة المباني في المناطق الحضرية، وتعرَّفت على نظام دولي للتقييم البيئي للمباني في المملكة المتحدة، حيث يشهد هذا النظام رسميًّا بمطابقة هذه المباني للمعايير البيئية، سواء على مستوى التصميم، أم التشييد، أم التشغيل؛ مما أثار اهتمامها على الفور.
في الوقت الحالي، تشارك عبدول في مجالات اقتصادية وإنسانية متعلقة «بالبناء صديق البيئة»، دون أن تشعر للحظة بالاشتياق إلى المختبر. وتحكي عن مجال البناء صديق البيئة ـ الذي تعمل فيه كمستشارة ومديرة مشروع في مؤسسة أبحاث البناء في واتفورد (المنظمة الأم لنظام تقييم المباني) ـ قائلة إن «هذا المجال، كخيار مهني، يبدو أفضل بكثير مما كان عليه من قبل، وسوف يشهد مزيدًا من الازدهار».
يهدف الإعمار صديق البيئة ـ الذي نطلق عليه أيضًا البناء الأخضر أو المستدام ـ إلى الحد من الأثر البيئي الشامل للمنشأة، من خلال تطبيق مجموعة من المبادئ التي تتحكم في خصائصه المختلفة، كموقعه، وحجمه، وتصميمه، وبنائه، وصيانته، ومستلزماته من الطاقة. ويستطيع العاملون في هذا المجال أن يشاركوا ـ على سبيل المثال ـ في تقييم استدامة مواد البناء، أو تصميم النوافذ التي تسمح بنفاذ أقصى قدر من ضوء النهار، أو تقييم أنماط استخدام الطاقة، أو فهم الأسلوب الذي قد يتفاعل به السكان مع إعادة تصميم المنازل، والمكاتب، والمدارس. ويشمل البناء صديق البيئة أيضًا تحليل دورة الحياة، الذي يقيّم الأثر البيئي لمكونات المبنى مدى الحياة، وفقًا لطريقة تصنيع هذه المكونات، أو نقلها، أو تركيبها، أو التخلص منها، أو إعادة استخدامها.
في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تستهلك المباني %40 من معدل الاستهلاك الكلي للطاقة، وهي نسبة مرتفعة، دعت إلى توفير الطاقة، والحد من الانبعاثات، ومراجعة نظم ترخيص المباني؛ من أجل العمل على إنشاء مبانٍ أكثر ملاءمة للبيئة. وقد أعطى هذا التركيزُ المتزايد الباحثين الشباب فرصًا جديدة لشغل مناصب في القطاع الصناعي، وفي المنظمات غير الربحية التي تهتم بتحويل المباني الجديدة والحالية إلى مبانٍ صديقة للبيئة في جميع أنحاء العالم. ومن ثم، يختار طلاب الدراسات العليا، وباحثو ما بعد الدكتوراة ترك تخصصات شتى، مثل الكيمياء الحيوية، وعلم السموم، والجغرافيا، والفيزياء، والهندسة البيئية؛ من أجل دراسة هذا المجال.
في إطار شغل معظم وظائف هذا المجال، لا يدخل ضمن متطلبات الوظيفة التدريبُ على فنون العمارة، بل الإلمام بمبادئ الاستدامة البيئية وعلم البناء. وتقدِّم جامعات عديدة دورات دراسية في علوم البناء وفيزياء البناء، وهي موضوعات تتبع نهجًا يعتمد على البحث العلمي والتدريب العملي في دراسة السمات المادية للمباني. وتمنح جامعة ولاية بورتلاند في أوريجون ـ على سبيل المثال ـ درجات علمية للطلاب والخريجين في الهندسة الميكانيكية أو المعمارية، مع التركيز على علوم البناء. يقول ديفيد سيلور ـ مدير مختبر أبحاث البناء صديق البيئة في الجامعة ـ إن الطلاب الذين أكملوا تلك البرامج نجحوا نجاحًا كبيرًا في العثور على وظائف في هذا القطاع.
ويمكن للتطوع بالعمل مع المنظمات غير الربحية ذات الصلة بالبناء صديق البيئة أن يساعد العلماء حديثي العهد في بناء علاقات جيدة في هذا المجال، إلا أن معظم الخبراء في هذا المجال يتفقون على أن المِنَح التدريبية والزمالات غالبًا ما تكون أقصر الطرق للحصول على وظيفة.
فرص دولية
تتباين فرص العمل من بلد إلى آخر، لكن غالبية التوقعات تشير إلى نمو قوي دوليًّا في مختلف جوانب قطاع البناء صديق البيئة. وتوقعت شركة «نافيجانت كونسلتنج» Navigant Consulting الاستشارية في شيكاغو بإلينوي مؤخرًا أن تنمو السوق الأوروبية للمباني الموفرة للطاقة، وكذلك المنتجات والخدمات التابعة لها، من 41.4 مليار يورو (47 مليار دولار) في عام 2014 إلى 80.8 مليار يورو في عام 2023. كما شهدت الأسواق في الولايات المتحدة نموًّا سريعًا في تبنِّي فكرة المباني صديقة البيئة، من المتوقع أن يستمر على نطاق واسع. وتُعَدّ الصين ـ التي تشهد سنويًّا بناء ملياري متر مربع من المباني الجديدة ـ أكبر سوق بناء تجاري في العالم، وهدفًا جذابًا بشكل متزايد لبرامج البحوث في مجال البناء صديق البيئة. وفي عام 2009، أنشأت الولايات المتحدة والصين مركزًا لأبحاث الطاقة النظيفة، حيث إنه من بين أهداف «اتحاد المعمار الموفر للطاقة» تسريع عجلة الأبحاث، والتقدم في تقنيات تكنولوجيا توفير الطاقة، من خلال التطبيق العملي على المباني في الصين. وفي الأوساط الأكاديمية، ازداد التمويل الأمريكي لبحوث البناء صديق البيئة في السنوات الأخيرة، حيث توزعت الأموال على عدة وكالات، مثل وزارة الطاقة، ومؤسسة العلوم الوطنية، ووكالة حماية البيئة.
في الاتحاد الأوروبي، يضم برنامج «هورايزون 2020» للبحوث والابتكار، الذي تبلغ قيمته 80 مليار يورو للسنوات من 2014-2020، أبحاثًا متعلقة بالبناء صديق البيئة ضمن خطته المناخية، وتحديات كفاءة استخدام الموارد، واستهلاك المواد الخام، فضلًا عن برامج أخرى. ويقول الباحثون إن الالتزام بهذا التمويل عزَّز من فرص الأكاديميين في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. كما يبيِّن مايكل كراوس، مدير مجموعة تقنيات البناء في معهد فراونهوفر لفيزياء البناء في كاسل الألمانية، أننا «إذا نظرنا إلى الفرص البحثية في مجال البناء صديق البيئة؛ سنجد أن فرص العمل جيدة في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي».
كان كراوس قد درَس الفيزياء، قبل أن ينتقل من مرحلة البحوث الأساسية في مجال الطاقة المتجددة إلى التطبيقات العملية على كفاءة استخدام الطاقة في قطاع البناء، حيث انضم إلى زملائه بمعهد تخطيط نظام كفاءة استخدام الطاقة في مبنى «نو أوفيس I» بميونيخ، الذي يُعَدّ أحد أشهر المباني صديقة البيئة في العالم. ولدى ترخيص المبنى في عام 2013، حصل هذا البناء على أعلى درجات الملاءمة البيئية التي مُنحت في أي وقت مضى لمبنى من نوعه، وفق نظام «الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة» لتصنيف المباني صديقة البيئة، المعترَف به في أكثر من 140 دولة. يزدان المبنى بمصفوفة من الخلايا الشمسية على السطح؛ لإنتاج جزء كبير من احتياجاته من الطاقة، وستائر أوتوماتيكية للنوافذ؛ لمنع ارتفاع درجة الحرارة، ونظام لتبريد المياه الجوفية، بدلاً من أجهزة التكييف النهمة في استهلاك الطاقة. وكجزء من المشروع، قام فريق فراونهوفر بحساب كيفية زيادة كفاءة المبنى من خلال مميزات أخرى، كاستخدام طبقة عزل سميكة، ونوافذ بثلاثة ألواح.
من ناحية أخرى.. توفر الخدمات الاستشارية في مجال كفاءة استخدام الطاقة فرص عمل متزايدة للباحثين. ففي مايو 2014، تلقَّى سيلور مكالمة هاتفية من شركة «إس بي دبليو كونسلتنج» SBW Consulting، الكائنة في مدينة بلفيو بواشنطن، حيث تساعد أصحاب البيوت والأعمال التجارية على قياس كفاءة استخدام الطاقة والمياه، وتتطلع إلى توظيف مزيد من العاملين. أوصى سيلور بتعيين سانتياجو رودريجيز مديرًا لمختبره ومتخصصًا في تطوير أجهزة القياس في المباني وصيانتها. كان رودريجيز ـ الذي انجذب إلى رياضيات الديناميّات الحرارية، وميكانيكا السوائل في البداية ـ قد استغل براعته في برمجة أجهزة الاستشعار؛ كي يحصل على وظيفة في مختبر سيلور. من ضمن المشروعات الأخرى التي عمل فيها هناك، أنه طوَّر أجهزة استشعار ونشَرها، من أجل استخدامها في تقييم الطريقة التي يتفاعل بها سطح مزروع فوق متجر للبيع بالتجزئة مع غلاف المبنى، أي الحواجز المادية التي تفصل ما بداخل المبنى عما بخارجه، وكذلك مع نظام التدفئة، والتهوية، وتكييف الهواء بالمبنى.
بعد حصوله على درجة الماجستير في الهندسة الميكانيكية، التحق رودريجيز بشركة «إس بي دبليو» في يوليو 2014 كمهندس متخصص في كفاءة استخدام الطاقة. يقوم رودريجيز الآن بتركيب وصيانة أجهزة معقدة للاستشعار عن بُعْد، ستساعد العملاء على تقليل وتتبع استهلاك الطاقة. ويقول في تعليق له: «أحب تقييم نماذج الطاقة التي طورها الآخرون، وبناء نماذجي الخاصة.. كما أنني أجد الجوانب التقنية المتعلقة بأجهزة القياس شيقة».
وانطلاقًا من أن مجال البناء صديق البيئة لا يقتصر على التطبيقات التكنولوجية والهندسية، فقد أسهمت يِتُونْدِي عبدول ـ الباحثة السابقة في مجال السرطان ـ مؤخرًا في إنتاج أداة تساعد الجمعيات الخيرية ـ مثل الاتحاد الدولي للصليب الأحمر، وجمعيات الهلال الأحمر ـ على تقييم استدامة مشروعات إعادة الإعمار، التي تقوم بها في أعقاب الكوارث الطبيعية. وضمن الجهود المبذولة في تعليم المهنيين والمتطوعين في المجال الإنساني، ذهبت عبدول إلى الفلبين؛ لتدريب المتطوعين والمهنيين على استخدام تلك الأداة في برامج إعادة الإعمار في منطقة دمّرها إعصار هايان. وقال المشاركون في الدورة إن الأداة ستساعدهم على اتخاذ قرارات أكثر استنارة.
مسارات غير مباشرة
تركِّز ليندساي بيكر ـ نائب رئيس تطوير الأعمال في شركة «بيلدنج روبوتيكس» Building Robotics حديثة الإنشاء، الكائنة في أوكلاند، كاليفورنيا ـ على كيفية تفاعل الناس مع البيئة داخل المباني صديقة البيئة. وفي أثناء دراسة بيكر الجامعية في مجال الدراسات البيئية، حصلت على ثلاث دورات تدريبية، مهَّدت لها الطريق في مجال البناء صديق البيئة. وبعد الانتهاء من دراستها، ساعدت على تطوير نظام الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة (LEED) لدى المجلس الأمريكي للبناء صديق البيئة، وهو هيئة غير ربحية في واشنطن العاصمة.
«أصبح مجال المباني صديقة البيئة عملًا تجاريًّا مربحًا».
في الوقت الحالي، تُواصِل بيكر دراسات الدكتوراة ضمن برنامج علوم البناء في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، وتساعد الشركة على الترويج لنظام برمجيات خاص متصل بنظام التدفئة والتبريد الرقمي في مبنى ما، يتيح لقاطني المبنى أن يلعبوا دور أجهزة الاستشعار؛ لضبط المتغيرات البيئية داخل المبنى بدقة. وتتوقع بيكر أن تقوم الشركة الجديدة، التي يعمل بها 12 شخصًا، بتوظيف المزيد من العاملين بحلول نهاية 2015.
يقول كريس بايك ـ نائب رئيس الأبحاث في المجلس الأمريكي للبناء صديق البيئة ـ إن المجلس يعثر على بعض كبار المرشحين للوظائف لديه من خلال فرص التدريب، ويشير أيضًا إلى أن أفضل هؤلاء يتميزون بالمرونة، والقدرات التحليلية، وحب الاستطلاع، والقدرة على التعامل مع عدة مهام في وقت واحد.
يشغل بايك أيضًا منصب مدير العمليات في مرصد تقييم معايير الاستدامة البيئية العالمية، الذي يساعد المستثمرين المحتمَلين على مقارنة السمات صديقة البيئة لسجلات العقارات العالمية. وكان بايك قد شحذ مهاراته التحليلية من خلال دراسة لآثار امتداد العمران على غابة استوائية. ورغم أن أبحاثه في الماضي تبدو أبعد ما تكون عن دوره الحالي، فإنه يقول إنهم يستخدمون أدوات مماثلة؛ و«سواء أكنت تبحث في التحليل المناخي البيولوجي لمجتمع من الأشجار في الغابة، أم مجتمع من الأموال العقارية، فإنهما لا يختلفان كثيرًا من الناحية الرياضية».
وكان انتقاله إلى مجال البناء صديق البيئة، مع المشاركة في مهام متداخلة لدى منظمات غير ربحية ـ مثل «وكالة حماية البيئة» في الولايات المتحدة، وشركة استشارية خاصة ـ فرصةً لتوجيه مهاراته في طريق مساعدة الناس على اتخاذ قرارات أكثر ذكاء فيما يتعلق بالبيئة الحضرية.
بالمثل، سلَكت إلين كوين طريقًا غير مباشر إلى هذا المجال، قادمةً من جيولوجيا التعدين. وحاليًّا، تشغل منصب نائب رئيس المعايير البيئية والصحية والسلامة في شركة «يو تي سي للنظم الصناعية والمباني»، وهي جزء من شركة «يونايتد تكنولوجيز» الكائنة في هارتفورد، كونيتيكت. وتركِّز كوين على إيجاد حلول استباقية؛ للتقليل من بصمة الشركة البيئية. وتراقب كوين مقاييس استهلاك الطاقة، والمياه، والنفايات، وكفاءة الاستخدام في مصانع الشركة، ومراكز البحث والتطوير. وتقول إن فريقها يحدد في كل عام أهدافًا لتحسين بيئة كل مبنى، ويطور خطة دقيقة لتتبُّع التقدم المحرَز. ومن ثم، «أصبح مجال المباني صديقة البيئة عملًا تجاريًّا مربحًا».
في ذلك الإطار.. تكشِف جيلينا سريبريك ـ خبيرة مجال البناء صديق البيئة، والمهندسة الميكانيكية في جامعة ميريلاند في كوليدج بارك ـ أن نطاق فرص العمل تتسع دائرته اتساعًا كبيرًا، «فإذا كنتَ متخصصًا في عدد من المجالات العلمية والتقنية والهندسية؛ فيمكنك ـ بدون شك ـ أن تقدِّم إسهامًا في هذا المجال صديق البيئة».