إذ ارتوت أرضه بماء سماه... لأنت يا «شيخ» سر ذاك «المطر»
توسد «الجمري» التراب... رفقاً به
الوسط - عادل مرزوق
«وإنني - أيها الشعب العظيم - لأعاهد الله عزّ وجل وأُعاهدكم بأنّي سأبقى وفياً لكم، وسأعيش هموم هذا الشعب وآلامه وآماله، وسأخدمه بكل ما لديّ من طاقات، علّي أتمكّن من أداء بعض الدين الكبير الذي لكم في عنقي».
سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري
أمسك يديك عن أن تكتب في «الشيخ» شيء لا يساميه عُلا. أمسك يديك، وذر حروفك تنثر وحيها. أي «بلاغة» على فقدك يا شيخ يجدي نظمها.
أمسك من أيامنا أوجاعها، ومن القرية الصغيرة الباكية أنفاسها، أمسك ما استطعت أن تمسك، جلباب وطن، أو حاول الإبقاء على ما تستطيع أن تبقيه من «وهن»، ما أجمل ضعفنا فيك يا «شيخ»، وما أروع قوتك فينا.
أمسك بعصاك إن الناس تعرفها، وامشِ الهوينا إلى البقاء هنا، لا تحسبن يا «شيخ» ترحل عنا. وطنك، أبناؤك، بناتك، أوراقك، كلماتك، وعصاك هنا. لا تحجب الشمس إن غادرتنا، إلينا.
تحية لجراحاتك الكبرى، لأوجاعك التي ما نطقت بها، لأنفاسك المُتعبة التي مازلتُ أسمعها مذ رأيتك أول مرة تعاني «الأسر»، لأيامك السوداء في زنزانة الظلم يسمعها التراب فيحييك بها، لمعترك أيامك في ساحة النضال يقرأها الأحرار والصابرون فيكبرون بها، تحية لكل «آهة» نطقت بها شفتاك ما انطفأت آهتك الجبارة تصنع لنا «الحرية»، وتبعث فينا كل معاني «الحب».
تحية لمجلسك العامر منذ 1987 ما انفك عن استقبال المحرومين والمعذبين، تحية لك رجلاً قاضاه وطنه بالسجن، إذ كان ملهم هذا الجيل وربانه نحو الحرية والكرامة، عُد بذاكرتك يا «شيخ» لمطلع سبتمبر/ أيلول 1988، ماذا تفعل، تمسك بقلوب المساكين أن تقع، ويسيرون بك للسجن. تسير خلفك الأنفاس والعقول تطلب حريتها بك وفيك. هذه القرية قريتك، هذه الأرض أرضك، تعرفك جيداً. أكثر مما تعرفنا نحن العابرون من خلالك. أما سمعت يا «شيخ» عن المطر هز هذه الأرض، حياك يا «شيخ» ثلاثة أيام ونيف. قبل تحييك الأرض برملها القاسي، أهالت عليك السماء ماءها، قبل أن يُهال عليك تُرابنا نحن.
تبكيك يا «شيخ» أصداء وطن، أعوام وأعوام، يبكيك العام 1992 بعريضتك تمسكها وتتلوها، يبكيك العام 1994 بعريضتك الشعبية لا ترمي بحقوق أبنائك للتاريخ وحدها، ألا ترى يا «شيخ» أن أعوامنا كلها لك، ذاكرتنا المسلوبة بالحزن والوجع لك. خذها معك، وذر قلوبنا يا «شيخ» يستافها الكمد.
من يمسك بابن الشهيد هاني الوسطي إن غادرت يداك قلبه الصغير؟، من يمسك أنفاس أبناء الشهداء وأراملهم إذ يتقطعون خارج إكليل الزهر، لأنت إكليل الزهر الذي مضى عنا، هذا الطقس بارد، أنفاسك وحدها دفء، هذا الطقس الذي تخشاه عظامنا اللينة، دعها لنا فالطقس بعد أن تسكن تربتك قاتل لا يرحم.
ما بالها هذه الأضواء غير الأضواء، ما بال هذه النايات تبعث بالثاكلات على حافة الوطن، لا الثاكلات - وكل نسائنا ثاكلات - يصمتن عن البكاء، ولا الحزن يهدأ يدعهن في دعة الموت هادئات. الفقد هو الفقد، وفقدك يا «شيخ» أوجعنا. ارفعوا عن ثاكلات «الشيخ» ملامة البكاء، أو أجيبوا ... ماذا بقى؟
بالأمس ثلمت في البحرين ثلمة، لا يسدها شيء، فقدت البحرين رجلاً من رجالاتها التاريخيين الاستثنائيين، رجل حملت كفاه أمنيات شعب عانى «المر» ما أعجز الصبر. رجل مشى مشية الحرية والكرامة لم ترتضِ «الذل» وما أجدى معها «سلاح».
رجل خاضت قدماه في الدفاع عن أبنائه وبناته، وكلما زادت عُرى الظلم زاد صوته جهرة بالحق، ما أثنته عن الوفاء بعهده «علة» أو «مرض»، وكان لزوجته وأبنائه وبناته أن يحملوا ضريبة «العهد» فوفى الجميع بعهدهم، واكتمل العقد... رجل ثقله يساوي وطناً و»حرية».
من يحكي المعاناة يا «شيخ» من يحكي؟، ومن باستطاعته أن يروي عنك وما يبدي؟ سلوا جنبات السجن، سلوا جنبات البيت والطرقات تعرف حراسها، سلوا عن بكاء القوي الخائف، سلوا «أم جميل»، عن وقوفاتها بالباب تمنع عن زوجها رسل السجن، سلوا السبت الأسود، سلوا أبناءه وبناته، سلوا القرية التي ما وهنت في معترك النضال والحرية خانعة أو ذليلة، سلوا الأطفال والشيوخ والشباب فيها، سلوا البحرين أرضها، سماءها، أيامها ولياليها.
وذروا التراب عليه برفق، لا تزعجوا الشيخ في ترتيله عهده الذي أوفى به?